CET 00:00:00 - 08/03/2009

مساحة رأي

بقلم/ كمال غبريال
كان نصف القرن الماضي بإجماله، سنوات عجاف على الشعب المصري كله، بداية من انقلاب العسكر على ديموقراطية تخطو خطواتها الأولى بعد ثورة
1919، وتحتاج للرعاية والتصحيح والتقويم، لا إلى المحو وقهر الديكتاتورية، وفتح المعتقلات أو كما يقولون ما وراء الشمس، ليحتجز في ظلماته كل صاحب رأي ومبدأ، ومعهم كل نشطاء الأحزاب والعمل العام، لينفرد شباب المغامرين العسكر بالسلطة، قبل أن يُصَفُّوا بعضهم بعضاً، أو بالأصح يتولى قائدهم تصفيتهم تباعاً، فلا يُبقي إلا على من يتقن دور التابع الإمعة، لينفرد بالحكم مستعيناً ببطانة من المنافقين والنكرات، الذين لابد وأن يعتبرونه ولي نعمتهم، وهم من عُرفوا حينها "بأهل الثقة"، تفريقاً لهم عن "أهل الخبرة"، الذين سُجنوا واستُبعدوا، أو نُفوا وهربوا من كل البلاد.
في هذا الجو الذي ساده الخوف والقهر، انسحب المصريون جميعاً من ساحة العمل العام إيثاراً للسلامة. .
بالنسبة للأقباط الذين كانوا ناشطين في فترة الديموقراطية المغدور بها، فقد كان هناك عامل طرد إضافي، علاوة على عوامل الطرد التي لم تميز بين مسلم ومسيحي، وطاردت واستبعدت كل صاحب موقف ومبدأ. . كان هناك أن أغلب المغامرين الذين قاموا بانقلاب يوليو هم من المنتمين بدرجة أو بأخرى لجماعة الإخوان المسلمين، وفي مقدمتهم بالطبع جمال عبد الناصر، الذي يؤكد المقربون منه أنه كان قبل الحركة الانقلابية قد أقسم قسم الإخوان، على المصحف والمسدس. .
وكان بينهم بالطبع كمال الدين حسين وحسين الشافعي، اللذين يسجل التاريخ في صفحات سوداء موقفهما من الأقباط، كما كان بينهم السادات الإخوانجي والنازي، الذي تمسكن حتى تمكن. . كان هذا الجو بهذه الطريقة أبعد ما يكون عن تشجيع الأقباط على الانخراط لا في العمل السياسي، ولا حتى في العمل المدني والمجتمع الأهلي، الذي تضاءل أيضاً دوره ونشاطه من الأساس وبصفة عامة.
كانت هذه هي المرحلة الأولى من مرحلتي طرد الأقباط من ساحة العمل العام المصرية في نصف القرن الماضي، وكان من الطبيعي فيها أن يلجأ الأقباط إلى كنائسهم، يجدون فيها الحماية والعزاء، بمنأى عن قهر السلطة، وعن الكراهية والإفراز الذي بدأ يتعرض له الأقباط على وجه الخصوص، حيث لم يكن من الوارد أن يصل قبطي إلى دائرة "أهل الثقة" في نظر النظام الحاكم، بل سمع الأقباط فيها صيحات بقيادة كمال الدين حسين مثل "إلى الحبشة يا أقباط"، ثم وعود السادات بإبادة الأقباط، وتحويلهم إلى ماسحي أحذية. .
رغم هذا كانت هذه المرحلة، ربما لأنها التالية مباشرة لفترة تسامح نسبي كبير في عهد الملكية التي قالوا أنها "بائدة"، وأيضاً لأن خطاب المرحلة الناصرية عموماً كان خطاباً علمانياً وقومياً، لم يستهدف بصورة أساسية اللعب بورقة الدين، كانت أحوال الأقباط كطائفة نسبياً لا بأس بها، إذا ما استثنينا مسألة طردهم من الساحة السياسية، مقارنة بالطبع مع المرحلة التالية، والمحددة تاريخياً بدقة متناهية، بتاريخ تولي السادات لرئاسة الجمهورية.
علاوة على ميول السادات الأصيلة المتأسلمة والنازية، فقد بدأ عهده ضعيفاً ووحيداً، والأرجح أن من ساعدوه على تولي الرئاسة، فعلوا ذلك لضعفه وإتقانه لدور الإمعة في معية عبد الناصر، فأرادوه لعبة في أيديهم، ليحكموا هم من خلف ستارته، لكنهم ما أن هموا بأن يمارسوا سيطرتهم، حتى أطاح بهم فيما سماه حركة 15 مايو التصحيحية، ليستدير بعدها باحثاً عن سند له، يقف في مواجهة الاتحاد الاشتراكي وتنظيماته، خاصة مع مظاهرة اليساريين لهم، فقاده شيطانه ليخرج مارد الإخوان من القمقم، ليترك لهم الساحة يعيثون فيها فساداً كما يحلو لهم، إلى أن جاءت نهايته على أيديهم، أو أيدي من خرجوا من عباءتهم، لكن الأهم أنهم تعملقوا وتوغلوا وتوحشوا، بدرجة أنهم صاروا القوة الجماهيرية والمالية وشبه العسكرية الوحيدة على أرض مصر. .
 توازي مع هذا أيضاً تبني الدولة ورموزها للخطاب الديني، تزايد به على الناصريين في البداية، بدءاً من خطاب السادات المفتوح إلى الناصري العتيد محمد حسنين هيكل، والذي بدأه بقوله: "أحييك تحية الإسلام، فأقول لك السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، ليبدأ بعدها انشقاق المصريين حول تحية الصباح والمساء، لتدخل الدولة بعد ذلك مرحلة المزايدة بالخطاب الديني على جماعة الإخوان، التي بدأت تحركاتها ورواجها الشعبي يخرج عن سيطرة الذين ظنوا أنهم قادرون على توظيفها بكيف وكم احتياجاتهم. . 
كان من الطبيعي  والحالة هذه أن يكون الأقباط هم الهدف الأول لجحافل هؤلاء الكارهين المتعطشين للدماء، فكان مسلسل الاستهداف المستمر للأقباط حتى يوم الناس هذا.
من الطبيعي والمنطقي في هذه الظروف، سواء ظروف مرحلة تهميش الأقباط الأولى، أو مرحلة استهدافهم الواضح والعنيف الثانية، أن تكون الكنيسة هي الأم الرؤوم، التي يهرع إليها أطفالها، فتأخذهم في حضنها، فصارت الكنيسة بجانب كونها دار العبادة، هي مجتمع قبطي متكامل المقومات. .
قامت الكنيسة أيضاً بدورها في تعويض شعبها عن تقصير الدولة في تقديم الخدمات للجماهير، فصار فيها النادي والملجأ ودار المسنين ومراكز لتعليم الفتيات الحياكة وما شابه، كان فيها أيضاً المكتبة ودروس التقوية والعلاج والرحلات. . . . إلخ.
هذا الدور الرائع قامت به الكنيسة على خير وجه، لصالح شعبها، وتخفيفاً من معاناته، في وطن يتحكم فيه المغامرون والمنافقون والفاسدون، ويتقدمهم المتعصبون، الذين لا يكرهون الأقباط فقط، وإنما يكرهون الحياة ذاتها، بل لا نبالغ إذا قلنا يكرهون ما يرتدون من ملابس، إن لم يكونوا يكرهون ذواتهم. . ورغم أن الكنيسة والشعب القبطي لم يكن أمامه إلا أن يفعل ما فعل، حتى لا يتبدد هباء، إلا أننا إذا نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر أخرى، نجد أن انسحاب الأقباط إلى داخل الكنيسة، كان بشكل ما تحقيقاً لأغراض من أرادوا طرد الأقباط من الساحة الوطنية المصرية، وفصلهم في كثير من مناحي الحياة عن إخوانهم في الوطن من المسلمين..
بالتأكيد لا يعني استنتاجنا هذا أن الأقباط كان ينبغي عليهم الانتظار على قارعة الطريق، حتى تتحسن الأحوال. .
فأنت إذا طردت ابنك أو أخاك من المنزل، فلا يحق لك بعد ذلك أن تلومه إذا أنشأ لنفسه بيتاً خاصاً به، يقيه المطر شتاء، ولفح الشمس صيفاً، ومع ذلك فسواء أدركنا أو لم ندرك، شئنا أم أبينا، فإن  النتيجة النهائية المتحققة كانت درجة كبيرة من التقوقع النسبي للأقباط داخل الكنيسة، وهذا بالتحديد ما يريده كل المتربصين بالوطن وليس بالأقباط فقط. .
ها قد صارت الساحة المصرية خالية من فصيل وطني كبير، وصاحب مصلحة أولى، في إفشال مخطط الإخوان المسلمين وعملائهم داخل النظام الحاكم، الذي يهدف إلى العودة بمصر إلى عصور التخلف، ويسعى إلى أن يرخي ستارة سوداء على كل ملامح الحياة والحضارة، بل  وأن يضع مصر في مواجهة مع العالم المتحضر، والذي يعتبر هؤلاء أن شعوبه أهل الكفر وأعداء الله، ويعتبرون بلاده دار حرب، لا هدنة ولا سلام معهم حتى تقوم الساعة!!

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١٠ صوت عدد التعليقات: ٩ تعليق