خلق الله عز وجل العينين فى مقدمة رأس الإنسان لا فى قفاه، لكى ينظر أغلب الوقت إلى الأمام وإلى المستقبل!، العالم كله فهم هذه الحكمة إلا نحن، ففضلنا أن نمشى إلى الأمام بقفانا، ورؤوسنا وعيوننا مصوبة ومتجهة ومثبتة إلى الخلف، إلى الماضى، حيث التراث قد قال كل شىء، وحسم كل شىء، وما علينا إلا أن نفتح الكتب القديمة عندما تواجهنا مشكلة، فليس فى الإمكان أبدع مما كان.
دائماً أسأل نفسى، متى حدثت النهضة؟، وأعتقد أننى قد وجدت الإجابة، إنها اللحظة التى قرر فيها المجتمع الغربى أن يواجه مشكلاته بالنظر إلى الواقع الجديد المتجدد، وليس بالنظر إلى النصوص القديمة والتراث المتحفى القديم الساكن، وكما خرج الفن من ظلام الاستوديوهات المغلقة والألوان الداكنة إلى رحابة الطبيعة وألوانها المتألقة، خرج العلم إلى عصر التجريب والبحث الميدانى الإحصائى والطب القائم على الدليل
يحضرنى لتقريب هذا المعنى حكاية الطهطاوى عندما سافر إلى فرنسا، وتدوينه فى أخبار باريز لمجادلة أو محاورة الشيخ المالكى مع الشيخ الحنفى حول «الكرنتينه» أو ما نطلق عليه الآن الحجر الصحى، ففى ظل أوبئة الطاعون والجدرى والكوليرا حينذاك التى كانت تحصد أرواح الملايين، وتبيد مدناً بأكملها، نرى الشيخ أبا عبدالله محمد المناعى المالكى يجادل الشيخ أبا عبدالله محمد البيرم فى قضية إباحة الكرنتينة!،
كيف فكرا إزاء حل المشكلة التى واجهها الغرب بمزيد من التجارب، ومزيد من البحث، حتى وصلوا إلى العلاج واللقاح، أما نحن فواجهناها بمزيد من الفتاوى ومزيد من الغرق فى الأوراق الصفراء.
حرّم الشيخ المالكى الكرنتينه وألف فى ذلك رسالة واستدل فيها على أن الكرنتينه من جملة الفرار من قضاء الله، واستعان فى رسالته بحديث «لا عدوى ولا طيره»، أما الشيخ الحنفى فأباح الكرنتينه مستنداً أيضاً إلى حديث آخر وهو «فر من المجذوم فرارك من الأسد»، وأصر الأول على أن قوله هو الحكم الشرعى، وأكد الثانى أن استدلالاته هى الحلال الحلال، وتناسى الاثنان أن الوباء على الأبواب ولن ينتظر حسم الصراع الفقهى بين المالكية والحنفية.
ظل إنسان الكهف يعتقد أن البرق والرعد هما أصوات الشياطين وأفعال العفاريت، وارتعدت فرائص المجتمعات حين حاول العلماء تشريح الجسم البشرى أو اكتشاف عوالم الكون والمجرات بالتليسكوب، ظلوا داخل شرنقة نصوص أرسطو وجالينوس القديمة، ويحاربون التقدم من خلال فهمهم الضيق لنصوص الكتاب المقدس، خافوا من خدش هيبة الإنسان،
واعتبروا أن الانتقاص من مكانة الأرض كمركز للكون تجديف وكفر، إلى أن كسر العلماء تلك الشرنقة الفولاذية، وقرروا أن يقرأوا الواقع ويصنعوا الحضارة، وكانت الراية فى البداية فى يد العلماء المسلمين ولكن للأسف دخل الفكر الإسلامى إلى المتاهة وتخلف المسلمون، وها هم منذ ألف سنة لم يسهموا بإنجاز علمى واحد فى منظومة الحضارة.
فلنغير شعارنا ليصبح «فى الإمكان أبدع مما كان».
*نقلاً عن المصري اليوم |