CET 00:00:00 - 30/08/2010

مساحة رأي

بقلم: أنطوني ويلسون
ثانيا: في أستراليا..5
ذكريات.. العمر اللي فات، هي محطة استراحة فكرية، أنزل فيها من قطار الحاضر محاولا الاسترخاء والتجوال في شوارع وحدائق حياتي. اثناء تجوالي أحكي للقارئ حكاية من هنا او من هناك.. اربطها بحكاية اخرى او حكايات. وان اقتضي الأمر العودة الى قطار الحاضر..
سأفعل ذلك لاستمرارية التفاعل مع الحاضر الذي سيصبح يوما.. ذكريات.. العمر اللي فات.
دعونا الآن نكمل الحكاية..

في المنزل بعد عودتي من العمل فوجئت بوجود ماما صارافينا وتينا في البيت مع الأولاد. ظننت ان زوجتي في المطبخ او احدى الغرف. لكن ماما صارافينا، بلغتها الانجليزية البسيطة حاولت ان تخبرني بان زوجتي في المستشفى على أثر حادث وقع لها. وهي بمستشفى لويشام.. المستشفى الذي ذهبوا إليه للبحث عن عمل.
كدت أن أنهار.. اعرفها وأعرف تنبؤاتها واحلامها.. لقد طلبت مني في الصباح (خد بالك من نفسك وانتبه للعيال).. وايضا قالت (لا تقلق.. كل شيء مكتوب.. روح الرب معاك ويحافظ عليك.. روح احسن تتأخر). والانهيار الذي انتابني في المصنع والشهقات والدموع التي انسابت غزيرة من عيوني مما لا شك فيه شعرت بالروح لما حدث لها.. شيء فظيع ونحن في الغربة وبعد ما يقرب من ثمانية اشهر يحدث لزوجتي حادث.
تماسكت وطلبت من ابنتي الكبرى ميرفت ذات العشر سنوات ونصف ان تتماسك ايضا وخرجنا الى الطريق واستقلينا تاكسي الى مستشفى لويشام الخاص، فلم يكن عندي سيارة في ذلك الوقت.

أخبرتني ماما صارافينا ونحن في طريقنا الى المستشفى لرؤية زوجتي كيف وقع الحادث.
ذهب ثلاثتهم (ماما صارافينا وزوجتي وتينا) للبحث عن عمل، واول مكان ذهبوا اليه كان المستشفى.. مستشفى لويشام. عرضت ادارة المستشفى عليهما (زوجتي وتينا) عملا كعاملتين نظافة Cleaner قبلت تينا العمل ورفضت زوجتي ذلك العمل وكانت تفضل عملا في قسم (الخياطة) أو (المطبخ). بناء عليه تكرمت ماما صارافينا وخطيبة ابنها تينا بمصاحبة زوجتي للبحث عن عمل عند بعض أصحاب الأعمال من الايطاليين في حي (لايكارد).. وهو ليس بالبعيد عن حي لويشام الذي تقع به المستشفى.
اتجه ثلاثتهم الى لايكارد سائرين على الاقدام في باراماتا روود، عند اشارة المرور التي تقع قبل نورتون ستريت، عبروا الشارع حتى وصلوا الى منتصف الطريق حيث توجد جزيرة صغيرة يقف عليها العابرون لحين تغير اشارة المرور للمشاة التي كانت تقول للمشاة (قف) وما ان تحولت الاشارة للسماح للمشاة بالعبور وخطت زوجتي الخطوة الأولى لتعبر الطريق، فوجئ الجميع بسيارة مسرعة قادمة من اليسار (اي من المرور القادم من باراماتا) فصدمت زوجتي واطاحت بها في الهواء، ثم سقطت على حافة رصيف الجزيرة الموجودة في منتصف الطريق.

في المستشفى كان منظر زوجتي حقيقة يبعث على الاسف والحزن. وعلى الرغم من كل تلك الإصابات في وجهها ورجلها وأماكن اخرى من جسمها، إلا ان الابتسامة لم تفارق شفتيها وهي تتمتم بكلمات الشكر للرب يسوع الذي انقذها من موت محقق. ما ان رأتنا حتى بكت فرحة مهللة وهي تحاول طمئنتنا «الحمد لله أنا بخير».
وهكذا بدأ خط حياتنا في أستراليا يأخذ منعطفا جديدا.. طال وقت العلاج.. حاول كثيرون العناية بالأولاد، لكني رفضت.. ولا انسى ذلك اليوم وانا جالس وغارق في همي وهم الأولاد وزوجتي اذا تأخرت على زيارتها دقائق قليلة تغضب وتثور.. وكنت اجد لها العذر لأنها لا ترانا إلا مرة واحدة ولمدة ساعة في اليوم ولا أقارب لنا والذين تعرفنا عليهم في أعمالهم، في وسط غيابي ذهبنا عن ارض الواقع سمعت خطوات أقدام نسائية اعرفها تمام المعرفة. انها خطوات اقدام  أمي.. افقت من غيبوبة تفكيري محاولا الاستماع الى تلك الخطوات التي بدأت تقترب مني.. أمي في اميركا.. لم اخبر احدا بما حدث فكيف تأتي..

وكيف يحدث هذا؟
سمعت طرقات على الباب.. اسرعت في لهفة وفتحت الباب وإذ بي اجد أمامي قدس ابينا مينا نعمة الله وتاسوني زوجته.. فتبينت ان تلك الخطوات.. خطواتها. وانا الذي ظننت انها خطوات امي التي استطيع تمييزها من بين خطوات كل النساء. وكان لحضورهما وقع عظيم علي. لقد حاولا مشكورين اخذ الأولاد الثلاثة للبقاء معهم والإشراف عليهم لحين عودة زوجتي من المستشفى. وصدق حسي عندما شعرت بان امي قادمة.. فقد كان ابونا مينا نعمة الله بمثابة الوالد لنا في الغربة وزوجته بمثابة أمنا..
استمر عذاب  العمل في المصنع، والعودة الى المنزل لاجد ابنتي الكبرى ميرفت قامت بمساعدة شقيقها مجدي وشقيقتها ماجدة فيما يمكن عمله في المنزل بعد العودة من المدرسة ونبدأ نحن الأربعة في الاعداد والاستعداد للذهاب الى المستشفى لزيارة ام الأولاد.

خرجت زوجتي من المستشفى.. ثم عادت مرة ثانية وبقيت فترة غير قصيرة. ثم خرجت مرة اخرى في تلك الفترة كنت قد اشتريت سيارة وفي الليلة الأولى اخذت ميرفت وماجدة معي في السيارة للقيادة حول البيت في الشارع المجاور حاولت تفادي سيارة مقبلة من الطريق المضاد فإذ بي اصطدم بشاحنة صغيرة مما دفع بالشاحنة الى داخل احد المنازل فحطمت سور المنزل.. ولحسن الحظ اوقفت السيارة قبل ان تصطدم بعمود الكهرباء. خرج الناس من منازلهم لاستطلاع ما حدث، وهنا لمست مدى محبة هذا الشعب الأسترالي ومدى تفهمه للأشياء ومدى اهتمامه بالإنسان.
جاءت عربة الاسعاف لتقلنا إلى مستشفى ماركفيل.. لم نُصَب بإصابات خطيرة، بل خدوش بسيطة.. وجاءت الشرطة.. وعندما رأى رجالها الحالة التي كنت فيها ساعدوني في ركوب سيارة الاسعاف واخبروني انهم سيلحقونني والبنات بالمستشفى وبعد الاطمئنان علينا يبدأون معرفة ما حدث.
في الطريق الى المستشفى طلبت من المسؤول التوقف عند البيت قبل الذهاب الى المستشفى لأطمئن زوجتي لأنني أعرف انها لا شك سمعت صوت الاصطدام او على الاقل صوت عربة الإسعاف ولا بد انها قلقة.

استجاب الرجل فقد كانت بالفعل في حالة قلق شديد واقفة في البلكون فالحادث لم يكن بالبعيد عن المنزل.. وما ان وقفت سيارة الإسعاف امام المنزل حتى صرخت.. نزلت اليها وطمأنتها.. سألتني عن البنات.. طلبت منهما النزول أيضا وطمأنة أمهما على انهما بخير.
بعد عودتنا من المستشفى مع جيراننا اليوغسلاف الذين جاءوا للإطمئنان علينا وإعادتنا إلى المنزل، سألت زوجتي عن ابننا مجدي. قالت انه عندما عرف انك  اخذت شقيقتيه ميرفت وماجده في السيارة قال لها:
- بابا لا يعرف قيادة السيارات جيدا هنا في أستراليا..
ثم تركها واتجه الى سريره وهو نائم الآن.
في الصباح اخبر أمه عندما جرى الى غرفته غطى نفسه بغطاء السرير واخذ يصلي طالبا من الرب يسوع ان يحفظ والده وشقيقتيه ميرفت وماجده. وقد استجاب الرب لصلاته.
اتساءل دائما.. هل التعصب وراثي ام مكتسب؟ هل الأديان والعقائد والفكر الاجتماعي او السياسي او الفلسفي هو السبب للتعصب؟
المتعصب عند تعريفه برأي المتواضع هو حالة تنتاب الانسان الفرد او الجماعة ضد او مع عقيدة او فكر ديني او سياسي او اجتماعي يعتنقه الانسان الفرد او الجماعة.

اما الوراثة فاعتقد ان لا دخل لها بالنسبة للتعصب لأن الطفل المولود يكتسب كل ما نريده أن يتعلم سواء بالطرق المباشرة عن طريق التعليم اللفظي او الكتابي نشجعه على هذا او نمنعه من التفكير او حب ذاك.. واحيانا كثيرا يتعلم الطفل من البيت تصرفات الوالدين والمحيطين به فيتعلم حب هذا وكُره ذاك فيكتسب الصدق او الكذب والمراوغة والنفاق.. بعد البيت يأتي دور المدرسة ثم المجتمع. فإن كان البيت محبا للغير أحب الطفل.. وان كان العكس تعلم الطفل ذلك. واذا كان البيت متعصبا دينيا اوعقائدياً تشبع الطفل بالفكر التعصبي وليس بالضرورة تعصبه لنفس الشئ الذي يتعصب البيت له سواء مع او ضد. لكنه يكون قد تعلم أن يتعصب.
في النهاية مهما فسرنا وفسر الفلاسفة والعلماء معنى التعصب فإن التعصب الأعمى.. اي التابع دون تفكير.. فهو ضار ولا نفع من ورائه مهما كانت النيات الحسنة سبيله.. فالطريق الى الجحيم مليء بالنوايا الحسنة.
بعد كل هذا الكلام عن التعصب وهل هو موروث ام مكتسب؟.. وعن التعصب بالنسبة للعقائد والفكر.. اقول لكم السبب الذي دعاني إلى الخوض في مثل هذا الموضوع الشائك.

الحادث الذي وقع لزوجتي في يوم الأثنين 17/4/1972 جرني الى هذا الحديث.. الم أقل لكم انه كان نقطة تحول كبير في حياتنا.. الشيء الوحيد الذي اشكر الرب عليه.. انه لم يؤثر تأثيرا سلبيا على إيماننا المسيحي.
قرر الطبيب المعالج اجراء عملية جراحية لزوجتي في (ركبتها) أجريت لها العملية ووضع الساق كله في (الجبس).. ووضع في داخل فتحة العملية انبوبة بلاستيكية مجوفة داخل (الجبس) تنتهي خارجه الى زجاجة فارغة، والسبب من وضع هذه الانبوبة هو السماح بالدم الفاسد الناتج بعد اجراء العملية الجراحية بالخروج عبر الانبوب البلاستيكي الى الزجاجة الفارغة والتي على الممرضة تغيرها كلما امتلأت وإثبات ذلك بالساعة والتاريخ في الأوراق الخاصة بالمريض.
قامت وفي صباح ذات يوم.. في ساعة مبكرة منه.. الممرضة بتغيير الزجاجة الممتلئة بالدم الفاسد.. ووضعت بدلا منها زجاجة نظيفة ولم تثبت ذلك في الأوراق الخاصة بزوجتي. وفي حوالي الساعة التاسعة صباحا ذهب الطبيب المعالج لرؤية زوجتي فرأى الزجاجة نظيفة. نطر الى الأوراق فوجد ان اخر موعد تم فيه التغير للزجاجة كان بالأمس.

اذن الجرح نظيف ولا حاجة للإستمرار في وضع الانبوب البلاستيكي، حاولت زوجتي إخباره بكل الوسائل، بالاشارة واللغة الانجليزية ان تخبره ان الزجاجة قد وضعت في صباح اليوم وليس بالأمس، لكنه ظن انها خائفة من الألم الذي سينتج عن سحب الانبوبة، غافلها وقام بسحبها.
أربعة أيام بعد ذلك وحالة زوجتي تسير من سيء الى اسواء.. وأخذت درجة حرارتها في الارتفاع.. إزدادت آلامها.. في كل مرة يمر فيها الطبيب في الغرفة الموجودة فيها يبعدونه عنها.
في اليوم الرابع صرخت زوجتي ونادت على الطبيب وأشارت غلى ساقها.. أسرع الطبيب وذهب اليها ووضع انفه ناحية الساق، بعدها وقف صارخا في وجه كل المحيطين به وأمر بنقل زوجتي الى غرفة «الاشعة» واخذ صور (لركبتها) مكان العملية، وكانت المصيبة. لقد تجمع الدم الفاسد وكون (غرغرينة) والتي يبدو انها وصلت الى (العظم) نفسه. مما دعاه الى ارسال تلغراف إلي يطلب مني الحضور الى المستشفى ومقابلته على وجه السرعة.

تركت العمل وتوجهت الى المستشفى وعندما رأني بدأني بالقول:
- لا مفر.. لا بد من بتر ساق زوجتك وعليك ان توقع على الموافقة على ذلك وفوراً.
لم احتمل.. انهزت تماما.. أعرف زوجتي.. لو حدث لها هذا لجنت .. حاورته في محاولات تنظيف (الركبة).. لكنه اصر على ذلك وإلا التسمم سيقضي ليس فقط على الساق.. بل وعليها.
تحدد اليوم التالي لاجراء عملية البتر. وشدد علي ان لا اخبرها بأي شيء.  اخبرها بان الطبيب سيجري لها عملية جراحية فقط.
اماالمقدمة عن التعصب فمرجعه الحالة التي وصلت اليها زوجتي. ففي اليوم الأول بعد ان افاقت من الحادث، سألتها الراهبة إن كانت ترغب في اخذ المناولة المقدسة من يد القس الكاثوليكي الموجود وقتها بالمستشفى، ويمر على المرضى للصلاة والمناولة. فوافقت زوجتي.. اذن زوجتي كاثوليكية هكذا ظنت الراهبة وإلا ما كانت وافقت على المناولة. لكن عندما رأت مستر ديكسون بعد ذلك وهو قس استرالي انجيلي يقوم بزيارتها والإهتمام بها، ثم ابونا القمص مينا نعمة الله الكاهن الارثوذكسي.. اكد للراهبة ان زوجتي ليست بالكاثوليكية. وبدأت عملية عدم الإرتياح، وليس فقط الإهمال الذي حدث لها وكان السبب في قرار بتر ساقها.. بل طوال فترة علاجها بالمستشفى بعد ذلك سواء بالداخل او الخارج.. فقد ذاقت زوجتي بالفعل مرارة التعصب الأعمى.

أعود بكم قليلاً بعد ان سحب الطبيب المعالج «الانبوب البلاستيك» والزجاجة الملحقة به من ساق زوجتي، ودرجة حرارتها في ارتفاع، لم يهتم احد بالكشف عليها ومتابعة الحرارة المرتفعة او حتى الاستجابة لنداءاتها المتكررة. في اليوم الثالث للعملية بعد ان اشتكت لي زوجتي الاهمال الذي تعانيه.. اصريت على ضرورة احضار طبيب للكشف عليها ومعرفة سبب ارتفاع درجة حرارتها هذا الارتفاع الكبير.
جاء الطبيب واخبرني ان زوجتي كثيرة الشكوى.. وامر باعطائها حقنة بنسلين.. ولم تنم زوجتي في تلك الليلة للأثر السيء الذي احدثته حقنة البنسلين فيها.
لذا عندما سمعت صوت طبيبها المعالج في اليوم الرابع صرخت واخذت تنادي عليه كما سبق واوضحت.
بعدما وقعت على الموافقة على بتر ساقها مرغما ومضطرا.. عدت الى المنزل ولم اخبر الأولاد بشيء.. هرب النوم مني.. بدأت صورتها تلاحقني بعدما سمعت من إحدى الممرضات انها قد تفقد ساقها.. ولحسن الحظ انها لم تفهم ما كانت تعنيه الممرضة. لقد حاولت المستحيل ان اتماسك امامها ولا انهار. يبدو انها كانت تحس بان شيئا ما قد يحدث لها, وان العملية التي ستجري لها في الصباح سيكون لها اثرها الخطير على ساقها. ومع ذلك عندما حان وقت انصرافي امسكت بكلتا يديها بيدي وقالت:
- ارجوك يا ولسن ان تصلي والرب سوف يتدخل.
في الصباح الباكر بعد ان ذهب الاولاد الى مدارسهم توجهت الى المستشفى لاواجه أصعب يوم في حياتنا..
وإلى اللقاء.. مع ذكريات العمر اللي فات..

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٥ صوت عدد التعليقات: ٣ تعليق