بقلم: أنطوني ولسن
موضوع موائد الإفطار في "رمضان" يشغلني منذ سنوات وسنوات، ولا أريد أن أقترب منه؛ لأنه منذ بدايته لم يأخذ الوضع الحقيقي لمعنى الإفطار الرمضاني في مصر.
كنا شباب الخمسينات في الشهر المبارك نعرف المعنى الحقيقي للتزاور بيننا في بيوتنا المسيحية والمسلمة؛ للإفطار في "رمضان" بالتناوب؛ بمعنى.. اليوم الإفطار عند (س)، وليس من المهم أن يكون (س) هذا مسلمـًا أو مسيحيـًا، لكن المهم أن أسرته تستضيفنا ويكون الإفطار معدًا في تمام موعده، فنجلس جميعـًا مع الأسرة ونتناول الإفطار، ونستمتع بالصحبة التي يغمرها الحب الصادق.
بل كانت المرحومة أمي تعد لنا "صينية الكنافة" التي أصبحت جزءًا محببـًا عندي عرفه جميع الأصدقاء، ولن أكون مغاليـًا لو قلت؛ والصديقات وعائلاتهم.. عندما أكون بمفردي "معزومـًا" على الإفطار، وهنا أقصد المسلمين فقط، والعزومة شخصية بالطبع غير مائدة الإفطار الجماعية من مسلمين ومسيحيين، وكانت الكنافة أهم ما يُعد.
لم أكن أحدد يومـًا معينـًا للزيارة، لكنني كنت أفاجئ الأصدقاء بها، ولم يحدث في مرة من المرات أن الكنافة لم تكن موجودة، ليس لأنهم يحبونها كما أحبها، ولكن لأنني فقط أحبها، بعد زيارتي لا اهتمام بالكنافة؛ فيعدّون ما يحبون، وقد تكون الكنافة واحدة مما يعدون.
الحكاية ليست حكاية الكنافة التي أحبها، ولا أنني كنت مدللاً بين أصدقائي، لكن كان الحب المصري الأصيل هو القاسم المشترك الأعظم فيما بيننا كأفراد أو عائلات.
كان زملاء العمل بعد ذلك لهم وقفة أخرى معي في "رمضان" خاصة أنني كنت المسيحي الوحيد في بداية العمل بالبطاقات الشخصية؛ أذهب في أول أيام "رمضان" إلى العمل كبقية الموظفين الساعة العاشرة صباحـًا، وطبيعي أن أكون قد تناولت طعام "الفطور" في المنزل، وشربت الشاي، ودخنت سجائري.
كما قلت في أول أيام الشهر المبارك كنا نبدأ العمل الساعة العاشرة صباحـًا؛ فكنت أتوجه إلى وكيل عام المصلحة الذي كنت أكّن له احترامـًا خاصـًا؛ لنبل شخصيته.. ثم إلى بقية الرؤساء والزملاء قبل أن أتوجه إلى مكتبي.
عندما أدخل مكتبي.. صدقوني في أول مرة شممت رائحة دخان سجاير؛ فلم أصدق نفسي.. فوجئت بسيجارة مشتعلة وكوب شاي فوق المكتب، وجميع الزملاء يوجهون كلامهم إليّ بالقول: "رمضان كريم"، نصوم نحن طمعـًا في ثواب الصوم، فلماذا تصوم أنت معنا؟؟ وأيضـًا لا معنى للصوم إن أُجبر الجميع على الصوم، والغريب أنهم جميعـًا كانوا يصومون، واستمر ذلك الحال إلى أن بدأ التغير والعياذ بالله!!
واليوم نرى موائد الإفطار لا تحمل المعنى الحقيقي لها، إنما تأخذ معانٍ أخرى لا دخل لها بالحب المصري الأصيل الذي كان، ولا بالمعنى الحقيقي لمعنى موائد الرحمن، معنى لا أجد الكلمة المعبرة تمامـًا عنه؛ لأننا نخدع أنفسنا لو قلنا أن التآخي بين المصريين ما زال كما هو، أو حتى موجود ولو بنسبة ضئيلة، إنما الموائد تُقام لأهداف أخرى.. لا للرحمة فيها مكان.
لم نسمع من رئيس حي -أي حي- يقيم مائدة رمضانية لأبناء الحي، وليس لدعوة كبار القوم، ولكن للعامة من مسلمين ومسيحيين، نعم من المسيحيين والمسلمين ليتعرف كل منهما على الآخر؛ لأنه لعارٍ أن يُقال مثلاً عن فيلم "بحب السيما" أنه يُعرّف المسلمين بعادات وعقائد المسيحيين، الذين يعيشون معهم طوال عُمرٍ كل واحد منهم، فكل منهم وُلد على نفس الأرض، وكل منهم نشأ وترعرع في نفس البيئة، ولم يفرّق أحد بين مسلم ومسيحي غير أن الأول يذهب إلى المسجد يوم الجمعة، والثاني إلى الكنيسة يوم الأحد.
أناشد الكنائس بتقديم هذه الموائد لأبناء الحي من المسلمين والمسيحيين الذي تقع به الكنيسة، وليس لعلية القوم والمسؤولين، أناشد أئمة المساجد بتقديم هذه الموائد لأبناء الحي من مسيحيين ومسلمين بالحي الذي يقع به المسجد، وليس لعلية القوم والمسؤولين.
أناشد العُمد في القرى والنجوع على إقامة هذه الموائد في قراهم أو نجوعهم؛ لأبناء القرية أو النجع من مسلمين ومسيحيين، وليس لجناب المأمور أو الحكمدار.
أناشد الأغنياء على إقامة هذه الموائد للفقراء لأبناء الشوارع والعشوائيات من المسيحيين والمسلمين.
هذا الشهر لن تعد إليه صفة "الكرم" إن لم يفطر المسلم الصائم مع المسيحي الغير صائم، حتى يأكل الجميع "عيش وملح" بعضهم مع بعض، وكما نعرف أن مَن نأكل معه "عيش وملح" نأتمنه ويأتمنا.
أعرف مقدمـًا أنني أطلب المستحيل أكثر مما طلب "أفلاطون" في جمهوريته، لكن على الإنسان أن يتمنى.. وأنا أتمنى.. ولا أملك غير التمني. |
|
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|