بقلم: عزت بولس
منساقًا وراء ذكريات الماضي ومدفوعًا برغبة في التغيير اتجهت منذ أيام للشمال وتحديدًا لبورسعيد لقضاء أجازتي الصيفية السنوية،"بورسعيد" المدينة التي شهدت شوارعها وسمائها أجمل أوقات صباي المبكر، تلك الأوقات التي تحولت لـ"ذكريات" بفعل مرور عشرات السنوات على حدوثها،لكنها مازالت حية بداخلي أسردها بسعادة بالغة كلما سنحت لي الفرصة للحديث عنها،فتفاصيل أوقات السعادة بـ"بورسعيد" تمحو الكثير من الفترات الغير سعيدة التي سبقتها والتي أيضًا لحقتها.
في طريقي لمدينتي الغالية"بورسعيد" سمح عقلي لخيالي أن يعرض له شريط فترة الحياة الجميلة، بتلك المدينة المحفورة بالذاكرة بحروف من السعادة مما يجعلها بداخلي مرحلة شديدة الحيوية لا تتأثر بعوامل الزمن.
تذكرت أصدقائي والذين كانوا جميعًا غير مسيحيين ولم أشعر معهم ولو للحظة بالنبذ، بل على العكس كنت أشاركهم في كافة مظاهر الحياة السعيدة والحزينة، دون أن أسأل ذاتي عن ديانتهم وهم كذلك لم يسألني أحدهم يوماً ما معني إني مسيحي؟ وأذكر أنه بمناسبة "شم النسيم" والتي تلحق دائمًا بـ"عيد القيامة المجيد" كنا نتجمع-أصدقائي وأنا- لنجمع عدد من الأقفاص الخشبية التي فرغت من الفاكهة ووضع دمية ترمز لعدونا جميعًا اللورد الإنجليزي المستبد"اللنبي" ثم نحرقها فيما بعد وسط تهليل كبير منا جميعًا،لم نكن نحن كمصريين أعداء لبعض البعض كما هو الحال الآن.
تذكرت جيدًا كأنه أمس كم كان منزل أسرتي ببورسعيد مليء بالحب والأصدقاء والجيران ومتعة تجمعنا حول شاشة التليفزيون لمشاهدة مباريات الكرة، تلك المتعة البسيطة التي كنا نسعد بها كأنها أكبر ما يمكننا الوصول له.
تذكرت "النجم الذهبي" فريق الكرة الممثل لشارعنا، ذلك الفريق القوي الذي كنت أحد دعائمه الأساسية لولعي بالكرة أو بمعنى أدق"إدماني لها" وكم نسقنا مع فرق الشوارع الأخرى مباريات يمكن أن نضعها تحت مسمي" دوري الحي".
الغريب-هدوء لا أريد ضحك الآن- أنه ورغم كوني "مدمن كرة" ومولع بها وعمود أساسي بـ"النجم الذهبي" إلا أن مستواي الفني لم يصل يومًا لأن يدفع بي لأرض الملعب،فقد كنت مستريحًا طوال الوقت على"دكه الاحتياطي" أشاهد وأشجع وأرسم الخطط للملعب الذي لم تطأه قدامي يومًا ما،رغم أنني أجريت محاولات عديدة بل مستميتة لأصل لجزء صغير جدًا من موهبة لاعب بورسعيد الفذ"الضظوي" لكن القدر لم يشأ أن يظهر من بورسعيد أثنين"ضظوي" لا بأس فحتمًا إذا كنت دخلت المنافسة معه وهو ابن مدينتي كانت ستحدث مشاحنات وتلاسن بيننا ترفعت عنه بالانسحاب!!
إلى هذا الحد انتهى شريط الذكريات ليس لأنه لا يحتوي على المزيد من التفاصيل، بل لأن السيارة توقفت وها أنا قد وصلت إلى بورسعيد المعاصرة التي لم أتفقدها منذ أن تركتها، وهالني بسعادة الطفرة المعمارية الكبيرة التي حدثت نتيجة لتحول بورسعيد لمدينة حرة جمركيًا،لكن تلك الطفرة المعمارية لم تؤثر على بالتشويش فمازالت ذاكرتي حية بالأماكن التي حُفرت بالقلب قبل الذهن.
بدأت بالبحث عن مكان للإقامة لي ولأسرتي وبالفعل وجدت أحد الفنادق الكبري وعندما ذهبت بمفردي للحجز لم تحدث مشكلات وكان الاستقبال طبيعي،لكن ما إن بدأت السيدات اللواتي معي بالظهور بملابسهن التي هى طبيعية لأي امرأة سوية تحترم أنوثتها،حتى تغيرت ملامح الفتاة العاملة بالاستقبال بالفندق والتي كانت مرتديه لـ"الحجاب" معلنة أسفها الكاذب بعدم وجود حجرات لنا لسبب الانشغال الكبير كسبب معلن ولطبيعة ملابس من معي بشكل غير معلن بالكلمات لكن واضح بشكل فج على ملامح الوجه ونظرات العين،وكانت تلك أول الضربات التي بدأت تجعلني أفيق وأشعر أن مدينتي المحببة لم تعد كما تركتها لقد تغيرت للأسفل والوراء باعتبارها جزء من التغير الخطير الذي حدث لمصرنا.
مشاهد الشاطئ وصوت هدير الأمواج وتلاطمها اللانهائي في إدبار وإقبال،كانت أكبر فرصة لي ليس للتأمل الشخصي وإنما في الأوضاع المصرية ككل،فقد كنت مفزوعًا وعفوًا للمصطلح من"الأشباح النسائية" التي تظهر بين أمواج البحر مرتدية السواد من أعلى الرأس حتى أخمص القدمين،وسألت ذاتي عن الأسباب التي تدفع بالمرأة المصرية الجميلة لأن تتحول إلى "شبح أسود" تحت سيطرة رجل يقيس معنى "الرجولة" بضأله حجم المساحات التي تتعرض من جسد امرأته للهواء والشمس،أهؤلاء الأشباح بنات وحفيدات الجميلات اللواتي تركتهم ببورسعيد منذ سنوات؟ ما الذي حدث بنفوس المصريين وما الجديد الذي خرب عقولهم وجعل ملابسهم ومظهرهم مؤشر لحجم إيمانهم أو هكذا يظنون؟.
شهدت مصر خلال الثلاثين عامًا الماضية بناء وتطوير للكثير من البني التحتية إضافة للطفرة المعمارية الكبيرة، ووسائل الاتصالات الحديثة،والمدن الجديدة وغيرها من مظاهر الحضارة،لكن وسط كل تلك المظاهر الخرسانية للحضارة ضاع أهم شيء"تحضر"الشخصية المصرية، بل وتم تخريبها عن عمد مع سبق الإصرار والترصد عبر طرق عديدة أشدها تأثيراً وخطرًا "الفكر الوهابي"الذي أصبح الآن الماركة المسجلة للفكر المصري، بعد أن صُدر إليه مدعوم بملايين البترول التي محت من عقولنا حضارتنا الفرعونية وهويتها المصرية ليرسخ محلها البداوة الفكرية والبدائية التفكيرية التي تخطتها البشرية جمعاء منذ قرون ونتمسك بها نحن عن جهل كبير من بعضنا،وبساطة البعض الأخر ممن هم لم ينالوا من الحياة ماهو أعلى من الاحتياجات الأساسية جدًا كالطعام والشراب.
هنا لا يمكننا أن نبريء نظامنا الحاكم منذ الثمانينات نتاج ما وصلنا إليه من اختراق وهابي،فذلك النظام قدم تسهيلات ودون قيود "للغزو الوهابي" وخاصة عبر الإعلام أولاً والتعليم ثانيًا إضافة لتدني مستوى المعيشة ،حتى أصبح المصري بين مطارق ثلاث قاسمة لظهره حانيه لنفسه خلقت بداخله بمرور الوقت تربة شديدة الخصوبة لبذور "الوهابية" التي لا تطرح سوى الشر والكراهية ومن ثم التنازل عن أي شيء وكل شيء حتى "الكرامة" ويكفي أن نرى كثير من المصريين الآن لا يبيعون فقط عقولهم للوهابية الفكرية،بل أيضًا يبيعون فلزات أكباده لكهول الصحراء القادمين من بلاد البداوة والبترول معًا.
على الجانب الأخر نجد أن من قام بتدميرنا عبر ثقافته البدوية وفكره المتحجر الموروث عن أباءه-بسماح منا لاشك- لديه وسائل إعلامه القوية الشديدة التميز من حيث الشكل المهني إضافة للقدرة الفائقة منهم كأبناء للصحراء على توظيف كل التقنيات الحديثة بمجال الإعلام لخدمة رسالتهم التي هى رافضة في كثير من الأحيان للجمود والجهل والتشدد الذي هو تراثهم الحقيقي،ومفارقات القدر المؤسفة أننا نحن أبناء الحضارة نريد أن نطبق تراثهم بعد أن رفضوه هم أنفسهم لإدراكهم بمدي خطورته على أي مسيرة إنسانية تريد التقدم بعصر اليوم!!!
غالبية المصريين اليوم أصبحوا مستمتعين بجرعات الدين المُصدر لهم عبر"الوهابية" الإعلامية،تلك الجرعات التخديرية التي أفقدت الكثيرين منا الوعي بالحاضر وأزماته والسبيل للخروج منها ودفعت بنا للبحث عن الحياة بعد الموت،وكأن أوضاعنا الحياتية المتردية التي لانفكر بحلها لم تميتنا منذ وقت طويل.
صدر لنا أحفاد "عبد الوهاب" الأفكار التي يعودوا يستخدموها عبر برامج الشحن الديني وغيرها،ونحن دون وعي أنسقنا ورائهم،أخذوا عنا معانى الحضارة ورسخوا بداخلنا قيم الجهل والصحراء والجسد،هم يعيشون الحياة ويتقدموا بكافة المناحي ونحن نعيش الموت باختيارنا انتظارًا للموت الأخر الذي سيأتي مرة واحدة ودون إرادتنا.
يقولون إنه ليس من الحكمة البكاء على اللبن المسكوب وأؤيد هؤلاء في حكمتهم،لكن علي مؤسساتنا الآن وتحديدًا أو بالمقام الأول الإعلامية إدراك مدى التدهور والتدني الذي وصلت إليه الشخصية المصرية التي كانت طيبة... مرحة... محبة للحياة،وبإدراكنا لطبيعة ماوصلنا له وحجم الخطر سيكون الحل لإعادة بناء ما تم هدمه من قيمنا المصرية الجميلة داخل نفوسنا التي كانت يومًا ما سوية وأصبحت في عمق المرض الآن،بعد أن تم احتلالنا فكريًا من قبل بدو الصحراء "الوهابيين" ذلك الاحتلال الذي هو أشد خطرًا من احتلال الأرض،فالأراضي المحتلة قد تعود بحرب مدروسة الخطط ومفاوضات لساسة محنكين، لكن احتلال العقل يحتاج سنوات طويلة من إعادة البناء عبر وضع سياسة واضحة للإصلاح من أناس مخلصين لقيم وحضارة وطنهم وهذا ما أشك في اعتبار كونه موجود بالأساس.
علينا كذلك نحن كأفراد أن نثور لتخليص عقولنا من ثقافة الصحراء التي احتلت عقولنا،مصريتنا عريقة وأصيلة وتحتاج منا أن نثق بها ونعرفها ومن ثم نعتمد عليها في ثورتنا للتغيير،لنطرد طفيليات الوهابية التي نشأت بداخلنا ولا نسمح لها بالنمو بعد ذلك،لنتحرك ونختار وفق مصلحة وطننا المهان لضعفنا"مصر".
فلنترك جانبًا خزعبلات عبارات الأخوة الدينية والأشقاء العرب ونرسم لأنفسنا مشروع قومي هدفه الأساسي مصلحة وطننا، وهويتنا المصرية شريان تغذيته الوحيد، فلنُجرب وكلي ثقة بأننا سندرك أن شعار"حب مصر هو الحل" وليس أي شيء أخر. |
|
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|