بقلم:د. عبدالخالق حسين
نقلت الوكالات النبأ الجلل برحيل الكاتب والمفكر الكويتي الكبير الدكتور احمد البغدادي إلى ذمة الخلود مساء الأحد 8/8/2010 في مستشفى خليفة في أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة ، حيث كان يُعالج فيها، بعد صراع طويل مع مرض القلب. وبرحيله فأن الحركة الليبرالية الكويتية والعربية فقدت فارساً آخر من فرسانها الشجعان بعد وفاة المفكر المصري الدكتور نصر حامد أبو زيد قبل أسابيع.
كان فقيدنا البغدادي يحارب على عدة جبهات، جبهة أمراضه البدنية التي كان يعاني منها لسنوات، وجبهة الأمراض الاجتماعية في مجتمعه الكويتي والعالم العربي. ولا شك أن صراعه مع الأمراض الاجتماعية ومواجهاته مع التيار الظلامي قد ساهم كثيراً في تأثير أمراضه البدنية على إيقاف قلبه المتعب، وإنهاء حياته هذا المفكر الكبير قبل الأوان وهو في أوج عطائه الفكري.
كان البغدادي معيناً لا ينضب للفكر التنويري العقلاني والتقدمي، محباً للحياة، فكما أبَّنه مركز "الحوار" للثقافة (تنوير) الذي كان الفقيد أحد مؤسيسه، في بيان بمناسبة رحيله، جاء فيه: "ويعتبر الراحل قدوة في شجاعة الرأي ومثالا في نزاهة الموقف، كما يعتبر أحد أبرز من سار في طريق الذود عن العقلانية والدفاع عن الحرية في مقابل ثقافة الخرافة والخنوع والإذعان، كما اتصف بحسن الخلق والالتزام بالقانون استنادا إلى اعتبارات حقوقية إنسانية دستورية."
أقول، ليس من الشجاعة أن نقارع التخلف وقوى الظلام ونحن مقيمون في الدول الغربية الديمقراطية التي ضمنت لنا أمننا وسلامتنا، ولكن من الشجاعة الفائقة أن تهاجم التخلف والسلفية والرجعية وقوى الظلام في عقر دارها، وأنت مهدَّد بالمخاطر من قبل الضباع الإرهابية الكاسرة، أعداء الحياة والحرية والعقلانية والفكر الليبرالي، خاصة وهذه القوى الرجعية متغلغلة في جميع أركان المجتمع، ولها نفوذ في مؤسسات الدولة، تتمتع بقدرات مالية وإعلامية كبيرة في الافتراء وتلفيق التهم ضد معارضيهم، وتشويه سمعتهم والانتقام منهم لتصفيتهم جسدياً واجتماعياً وسياسياً لإخلاء الساحة منهم. ففي مثل هذه الظروف كان الراحل أحمد البغدادي وزملاؤه من المفكرين التقدميين الكويتيين الأحرار يناضلون.
وقد تعرض البغدادي مراراً إلى هذا النوع من محاولات التصفية، وسيق إلى المحاكم بتهم شتى وعلى رأسها تهمة الإساءة إلى الدين، كما حصل له بعد نشره مقالاً في صحيفة «السياسة» الكويتية بعنوان «أما لهذا التخلف من نهاية؟» فأدانته محكمة الاستئناف الكويتية بتهمة «تحقير مبادئ الدين» وهكذا يربطون التخلف بمبادئ الدين. وقد حكم عليه بالسجن عدة مرات، منها مع التنفيذ ومنها مع وقف التنفيذ بعد ضغوط من جهات دولية.
فالمجتمع الكويتي، كغيره من المجتمعات الخليجية والعربية الأخرى، يمر بمرحلة التحولات الاجتماعية السريعة، ويقدم أوضح مثال في الصراع بين أنصار التقدم وأنصار التخلف، الفرضية التي وضعها عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي والتي أسماها بـ(التناشز الاجتماعي) ويقصد بها التنافر أي الصراع بين المجددين والمحافظين. فالتغيير سنة الحياة يحصل في كل وقت ولكن على وتيرة مختلفة، ففي الماضي كان يحصل التغيير في المجتمع ببطء ودون صراع لأن الناس لا يشعرون به، أما اليوم وبسبب الاحتكاك المتواصل بين الشعوب، والثورة المعلوماتية، فيحصل التطور السريع. ويقول الوردي: "فمن خصائص التغير البطيء أن المجتمع يتكيف له ويتلاءم معه بمرور الأيام، فلا يظهر فيه صراع عنيف أو تناقض بين القديم والجديد على منوال ما يظهر إثناء التغير السريع. ومن طبيعة التغير السريع أنه لا يؤثر في جميع أجزاء الكيان الاجتماعي على درجة واحدة، فكثيراً ما يكون هناك جزءان مترابطان ثم يحدث التغير في أحدهما دون أن يحدث في الآخر، أو هو قد يحدث في أحدهما أسرع مما يحدث في الآخر، فيؤدي ذلك إلى صراع أو توتر أو تناقض بينهما، وهذا هو ما أسميته بـ (التناشز الاجتماعي). (د. علي الوردي، لمحات اجتماعية ج1، ص 288).
كتب الوردي هذا الكلام في الخمسينات من القرن العشرين عما حصل في العراق من صراعات بعد الحرب العالمية الأولى والاحتلال البريطاني له، فماذا يقول لو رأى ما يجري في زماننا هذا، عصر العولمة، حيث صارت الدنيا قرية كونية صغيرة؟؟
أكاد أجزم أن (التناشز الاجتماعي) في الشعب الكويتي، هو على أشده، وذلك بسبب ما يجري فيه من تحولات اجتماعية سريعة نتيجة الموارد النفطية الهائلة التي جعلته في حالة احتكاك متواصل مع الشعوب الغربية المتحضرة ونقل الحضارة الحديثة إليه، وما فيه من تجديد في طريقة التفكير والوعي وأسلوب الحياة وما يواجهه من ممانعة لهذا التطور من قبل التيار المحافظ والظلامي. وما وصول أربع نساء دفعة واحدة إلى البرلمان في الانتخابات التشريعية الأخيرة إلا دليل على هذه التحولات، والتي هي نقلة نوعية في الحياة السياسية والاجتماعية في المجتمع الكويتي.
لذلك ومع هذه التحولات السريعة لا بد وأن يحتدم الصراع بين قوى التجديد والقوى الدينية المحافظة، وما ينتج عنه من معاناة المفكرين الكويتيين العقلانيين في صراعهم مع أنصار التخلف. كان الدكتور أحمد البغدادي من مؤسسي الحركة التنويرية العقلانية الليبرالية، ولذلك فقد عانى كثيراً في مواجهة دعاة الخرافة وأعداء التغيير.
لقد رحل عنا المفكر الكبير الدكتور أحمد البغدادي، وبرحيله خسرت الحركة الليبرالية العقلانية، الكويتية خاصة، والعربية عامة، مفكراً كبيراً وشجاعاً، قدم للحركة الكثير، ولكن أفكاره التنويرية ستبقى معنا تواصل رسالتها التنويرية لتبث الوعي في الشباب والأجيال القادمة. لذا فأفضل طريقة يمكن أن يكافأ بها فقيدنا هو أن تقوم مؤسسة صحيفة السياسة الكويتية التي كان الفقيد ينشر فيها أفكاره من خلال عموده تحت عنوان (أوتاد)، بجمع مقالاته وإعادة نشرها في كتاب أو كتب، لإيصال أفكاره التنويرية إلى الشباب الذين كان الفقيد يخاطبهم.
وختاماً، نقدم أحر التعازي إلى أسرة الدكتور البغدادي، وكافة أصدقائه ومحبيه وقرائه وتلامذته، وله الذكر الطيب. |
|
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|