بقلم: أنطوني ولسن ثانيًا: في أستراليا..
ذكريات..العمر اللي فات، هي محطة استراحة فكرية، أنزل فيها من قطار الحاضر محاولاً الإسترخاء والتجوال في شوارع وحدائق حياتي. أثناء تجوالي أحكي للقارئ حكاية من هنا أو من هناك..اربطها بحكاية أخرى أو حكايات. وإن اقتضي الأمر العودة إلى قطار الحاضر..
سأفعل ذلك لإستمرارية التفاعل مع الحاضر الذي سيصبح يومًا.. ذكريات.. العمر اللي فات.
دعونا الآن نُكمل الحكاية..
أواصل معكم ذكرياتي في "استراليا"، وعملي عاملاُ بمصنع للزجاج في حي وترلوو Waterloo، فقد حظيت برضى الـ Boss وهو هنجاري الأصل، فعيني المدرب لكل عامل جديد يلتحق بالمخازن. أتذكر يومًا جاءني ليخبرني أن أحد أبناء بلدي جاء بالأمس- وكنت متغيبًا عن العمل- فطلب منه أن يأتي اليوم لأراه، وأقرِّر إن كان يصلح للعمل فأقوم بتدريبه أم لا؟
جاء ابن بلدي، ودُهش عندما رآني مرتديًا زي العمال. قلت له: لا تندهش فأنا هنا عامل مثل أي عامل آخر، ولثقة الريس بي جعلني أقوم- إلى جانب عملي- بتدريب كل عامل جديد..وفهمت سبب دهشته، فقد حضر بالأمس ولم أكن بالمصنع، فقال له الريس: مستر "ابراهيم" غير موجود اليوم تعال غدًا حتى يراك. فظن المسكين أن مستر "ابراهيم" راجل في ايده التعينات. ما علينا..رفض العمل طالبًا وظيفة..في آخر النهار أخبرت الريس بذلك، فطلب مني إخباره بأن هذا هو العمل المتوفر لدينا.
كان الراتب الأسبوعي في ذلك الوقت بعد استقطاع الضريبة أربعون دولارًا فقط. لا علاوة للأطفال ولا لزوجة لا تعمل. وطبيعي لم يكن الراتب يكفي..ايجار السكن (26) دولارً،ا وكان صاحب المنزل يدفع الماء والكهرباء. فكيف نعيش بـ 14 دولارا فقط؟!..لذا كان علَيّ قبول أي عمل إضافي يُطلب مني..نبدأ العمل الساعة الثامنة صباحًا، وينتهي العمل الساعة الرابعة والنصف مساء..راحة لمدة نصف ساعة، ثم نبدأ العمل لمدة ساعتين أوأكثر..ولم أرفض العمل الإضافي لا خلال الأسبوع ولا في عطلة نهاية الأسبوع (السبت والأحد). وربكم والحق كنا سعداء نذهب إلى التسويق الأسبوعي نملأ (الترولي)، وأحيانا نأخذ (ترولي) آخر..وكانت وما زالت طريقتنا عشوائية لم نكتب يومًا ما نريده..بل ندخل ونلتقط كل ما تقع عليه عيوننا ونضعه في (الترولي)، ولن تصدقوا كم كنا ندفع!!..لا تندهشو (عشرون دولارًا) فقط..ولم تقف اللغة حائلاً بيننا.
وأهم ما ركّزت عليه مع الأولاد الإعتماد على الله وعلى أنفسهم في الدراسة، والتركيز على اللغة الإنجليزية؛ لأنها لغة بلدهم الجديد..وأظن إنني كنت محقًا في ذلك على الرغم من أن أولادي لا يقرأون لي..وهذا لم يؤثر علي مطلقًا..فما الذي جنيته أنا من اللغة العربية؟..لا شيء غير وجع الدماغ..حتى ولو كان في بعض الأحيان لذيذ..لكنه في النهاية وجع دماغ وبس..
لاحظت أنه بعد إنتهاء السنة الدراسية، يلتحق الطلبة للعمل بالمصانع والشركات..وهذا في الحقيقة شيء جميل، وينم عن فهم للحياة ومتطلباتها.
التحق بالعمل معنا شاب إسترالي في العشرين من عمره اسمه "ويسلي"..وطبيعي كان عليّ تدريبه على العمل. أثناء التدريب حدث نوع من التجاوب الفكري بيننا، وكان طالبًا في السنة الثانية بكلية الطب. توطدت العلاقة بيننا وكان كل منا يشكو همه للآخر.
أتذكَّر حادثتين حدثتا معه..أو بالحري موقفين..الأول: عندما عيّرني في وسط الحديث، وقال لي: إننا نحن المصريون لم نصمد أكثر من ستة أيام في حرب 1967. فما كان مني إلا أن نظرت إليه بغضب (مما أخافه) وقلت له:
- أنت مخطيء، لم تستمر الحرب 6 أيام..الحرب استمرت نصف ساعة فقط عندما دُمِّر طيراننا الحربي في طول البلاد وعرضها، ومع ذلك فمصر هي "مصر"، وعلم "مصر" يرفرف عاليًا على أرضها..أما أنتم..هل لك لو سمحت أن تقول لي: أين هويتكم؟ أين عَلَمكُم؟..ما زلتم خاضعين للتاج البريطاني كأي مستعمرة.
نظر إليّ.. ثم نكّس رأسه، وقال:
- أنا آسف، لم أكن أريد جرح مشاعرك..كنت فقط أمزح معك.
أما الموقف الآخر، كان يحدثني كثيرًا عن خطيبته. وهي زميلته في نفس الكلية تدرس الطب مثله. ولا أدري أي شيطان هذا الذي جعلني ذات مرة أسأله سؤالاً محرجًا.. فقد سألته:
- هل تحب خطيبتك؟
- نعم..
- وماذا لو وجدت خطيبتك عند الزواج غير عذراء؟
انتفض وامتقع وجهه وأصفر..صمت فترة ثم التفت إليّ صارخًا قائلاً:
- لماذا يا ولسن؟ لماذا؟.. صل معي أن تكون عذراء فأنا أحبها..
تلجَّم لساني؛ لأن معرفتي أن هذا الأمر ليس له أهمية في المجتمعات الغربية..بل المعروف أن العذراء مرفوضة في هذه المجتمعات؛ لأنها تدل على عدم إنجذاب الشباب لها، وخيبتها، وعدم تجربتها. احتضنته، وقلت له:
- إنني لم أكن أعني جرح مشاعرك أو إثارة مخاوفك.
ظلت علاقتنا طيبة طوال وقت وجوده في العمل معنا. وفي آخر يوم له في المصنع كان يوم الإحتفال بالكريسماس لعام 1971، ويعتبر أول كريسماس لنا في "إستراليا". بعد الإحتفال أخذني "ويسلي" بسيارته إلى محطة قطار (ردفرن)..ولم أره منذ ذلك الوقت.
أعمل في مصنع الزجاج عاملاً..لكن لم يفارقني حلمي لأكون مدرسًا في "إستراليا".
بدأت أبحث وأتقصى لأعرف الطريق لوزارة التعليم في "سيدني"؛ لأتقدم بطلب للعمل للجهات المعنية. وأيضًا أتقدَّم بطلب للتدريس بالمدارس الكاثوليكية الخاصة.
وفي نفس الوقت، بدأت أفكِّر في كيفية الإلتحام بالشعب الإسترالي وبالشارع الإسترالي. تيقنت وتأكدت بأن هناك إختلافًا في اللهجة الإسترالية عما درسناه بالإنجليزية في مدراس "مصر"، على الرغم من أنني بدأت دراستي ما قبل المرحلة الإبتدائية وحتى السنة الثالثة الإبتدائية بالمدارس الإنجيلية بـ"شبرا"، "النزهة" بالقاهرة. مادة اللغة الإنجليزية مادة أساسية ضمن مناهج التدريس لتلك المدراس. إلا إنني لم أستطع فهم اللهجة وكل ما ينطق به الإسترالي.
طبيعي اللغة الإنجيزية..هي اللغة الإنجليزية..مثلها مثل أي لغة أخرى.. الدول التي تتحدث بها- سواء عن طريق الإكتشافات الإنجليزية لدول مثل "أميركا" و"إستراليا" و"كندا" وغيرهم. ولابد وأن تضع كل دولة بصمتها على اللغة، ولا يتم هذا إلا باللهجة التي تضع من خلالها كل دولة بصمتها على اللغة للتميز بينهم. ولم نسمع أن بلدًا من هذه البلدان انتمت إلى "بريطانيا"، وقالوا عن أنفسهم إنهم إنجليز..بل كل بلد منهم تفتخر شعوبها بإنتمائها للوطن والأرض التي يعيشون عليها..ماعدا الدول العربية التي ألقت بهويتها في البحر، وتمسحت بالعربية، وتمسكت بها. ونسيت تاريخها الممتد لآلاف السنين..وعجبي!!
أعود إلى "إستراليا"، ورغبتي في الإحتكاك هذه أخذتني إلى شوارع وحارات مدينة "سيدني"، وخاصة (الكينجزكروس). شد إنتباهي ذلك العالم الجديد عليّ، وعلى كل من جاء من بلاد مثل "مصر".
ألغي الإنقلاب العسكري في "مصر" البغاء..لكن لم تستطع منعه، والقضاء على تجارة الجسد. كنا مجموعة من الأصدقاء نذهب إلى تلك الأماكن المفتوحة في ذلك الحي ونوادي (الاستربتيز)؛ لنشاهد ونحتك ونرى إلى أي مدى توصل الإنسان إلى هذا المنحدر..المرأة التي تتعرى أمام الرجال والنساء على حد سواء نظرتي إليها كانت مزيجًا من الإحتقار والشفقة.
أحتقرتها؛ لأنها شوّهت بهذا العمل أجمل مخلوقات الله. جسد المرأة في رأيي هو لإكرام المرأة وتمييزها عن الرجل..إنها شيء نفيس مقدَّس، عرضه بهذه الصورة المبتذلة ليس فيه إثارة البتة، بل فيه إشمئزاز للنفس، والذي يثير هو الموسيقى الصاخبة والأضواء الصارخة المجنونة الحركة مع وجود سكارى محرومين، غالبيتهم من أهل الريف، ولا أظن من السياح الغربيين.
اما الشفقة فهي في ذلك الإغراء المالي الذي تحصل عليه عارضة جسدها، والذي يكون أضعافًا مضاعفة عن التي تقف على قدميها طوال النهار تعمل في مصنع، وتحصل على فتات صاحب المصنع. لو أن المجتمع كرّم المرأة وأعطاها حقها..ما باعت نفسها بهذه الطريقة المبتذلة. ومع الأسف الحرية الزائدة لا تعطي للإنسان فسحة وقت للروية، وعدم الإرتماء في ما قد يحوِّله إلى عبد حقيقي لشهواته. وبهذا تكون المرأة لم تحصل على كامل حريتها وحقوقها كآدمية.
لي وقفة هنا بالنسبة للمرأة الأتية من الشرق، والتي ترى في الحرية الزائفة التي تظهر بها المرأة الغربية أملاً وتطلعًا. أقول للمرأة الشرقية: لا تنبهري بهذا البريق الخادع الكاذب. ولا تنجرفي وراء كلمة (أنا حرة). أي أنا حرة في فعل ما أريد فعله من رذيلة. لكن كيف تفعل المرأة الشرقية ذلك، وهي نفسها تتطلع إلى الحرية التي لم تحصل عليها في وطنها؟!! فهي تأكل ما يريد الرجل، وترتدي ما يريد المفتي، وتتزوج من يريده والدها، ولا تعمل إلا ما يرضاه مجتمعها..لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
رأيت ضياع الشباب في ذلك الوقت..لا أنسى تلك الغرفة التي لا تتعدى مساحتها مترين ونصف المتر عرضًا، وثلاثة أمتار طولاً، وتليفزيون موضوع فوق رفٍ عالٍ، والعدد الهائل من الشباب والشابات المُخدَّرين وكل منهم في غيبوبة عن الآخر. وعيونهم تتطلع إلى أعلى لتشاهد التليفزيون..أو بمعنى آخر أدق..لا تشاهد سوى لا شيء.. إنهم لا يشعرون بالوجود الآدمي لهم، ولا بالوجود الجسدي المادي لهم، أو لما حولهم من أشياء.
زرت أماكن تجلس فيها في العراء على (دكك) أو كراسي، أو تفترش الأرض. وأهبل أو مسطول يمسك بالجيتار يعزف، والكل يترنح يمنة ويسرة في نشوة، لابد أنها نشوة التائه الضائع البعيد عن واقع الحياة.
لم أتعلم شيئًا..ولم أزد إلى معلوماتي الإنجليزية شيئًا يُذكر. والمصنع الذي أعمل فيه لم أستطع التقاط اللهجة الإسترالية. كعامل عليّ أن أركز على عملي، وإلا الطرد سيف مسلّط فوق رقبتي. وأنا العائل الوحيد لأسرتي المكونة من زوجة تبذل قصارى جهدها في البحث عن عمل، وهي التي لم تعمل في "مصر" لا قبل الزواج ولا بعده، وثلاثة أطفال ولد وبنتين.
كنت أسال نفسي كثيرًا..هل كُتب عليّ أن أبقى في هذا العمل مثل هؤلاء الرجال الذين دخلوا بأقدامهم هذا المصنع، وهم في بداية حياتهم لا يتعدى سن الواحد منهم 16 او 17 سنة، وما زالوا يعملون. وكل الذي ارتقوا إليه هو وقوفهم لوضع اسماء المنتجات على الصناديق المُعدَّة للشحن، بعدما كانوا يقومون بنفس العمل الذي أقوم به الآن وأنا في سن 36 سنة. لا وقت للحديث إلا إذا كنت طليقًا في اللغة الإنجليزية وتجيد نطق كلمة (F) عشر مرات في جملة بها تسع كلمات.
على الرغم من اهتمام الـ Boss بي ومحاولاته تعريفي على كل صغيرة وكبيرة في المخازن، ومساعدتي في العمل الإضافي- سواء بالمصنع أو بالمخازن- مما أثار حفيظة بعض من العمال القدامى، إلا إنني كنت متمردًا أطمع وأطمع إلى عمل آخر..ومع ذلك لم أترك ذلك العمل.
الكريسماس مناسبة يتبادل الناس فيها الهدايا والمكافآت التشجيعية. لكن لفت إنتباهي في المصنع إنهم يتعاملون مع العمال في فترة الكريسماس بطريقة كانت تشد إنتباهي. كنت ألاحظ الـ Boss يذهب إلى العامل ويهمس في أذنه ببضع كلمات فيتجهم وجه العامل دون ما أدري السبب. زاد ذلك من فضولي بعد ما تكرّر هذا العمل مع عدد من العمال، ومنهم الدكتور "ويسلي"- الطالب بكلية الطب. سألته عما همس به الريس في أذنه.. فضحك، وقال:
- ألا تعلم؟! فقد أعطاني الـ Sack أي أعطاني إنذارًا بالإستغناء عني نهائيًا.
تعجبت أشد العجب لهذا..هل هذه هي الهدية التي يأخذها العامل قبل العيد؟.. وقال أيضًا:
- إنه من المحتمل الإستغناء عنك أيضًا.
توترت أعصابي..التحقت زوجتي بعمل في مصنع للخيام بعدي بشهر، ولو تم الإستغناء عني في العمل كيف نعيش، بمرتب فرد واحد؟ أخذت الهواجس تقلق منامي، ولم أجد غير العمل متنفسًا لهواجسي وقلقي. وإن كان هذا مبدأي دائمًا- سواء في "مصر" أم هنا- لأنني أؤدي واجبي وأعتبر عملي هو رئيسي وليس الإنسان.
ذات صباح جاءني الريس وأخبرني أنني سأذهب إلى القسم الآخر في المخازن للعمل هناك، ولي مُطلق الحرية في إختيار أحد العمال معي. اخترت شابا لبنانيًا اسمه "رفيق" كان قد التحق بالعمل. وطبيعي قمت بتدريبه. شاب مؤدَّب يبذل جهدًا ملحوظًا في العمل، وهو و"ويسلي" الوحيدين الذين كانت علاقتي بهما في المصنع طيبة. صعدنا إلى الطابق العلوي، وقابلت رئيس ذلك الفرع، وهو إسترالي أنجلو ساكسوني..أخذ يشرح لي المطلوب عمله، وتركني بعد ذلك وذهب إلى حال سبيله. بدأت أفكّر في خطة لتنفيذ ما طلبه مني. وجدت أمامي هرمًا مرصوصًا من الزجاج يعتبر بحق أكثر الأعمال ثقلاً. فقلت لنفسي: لماذا لا أبدأ بهذا الجزء، ونحن ما زلنا في بداية اليوم؟..وبالفعل نقلنا ذلك الهرم من صناديق الزجاج إلى المكان الجديد الذي أشار إليه الريس.
بعد أن انتهينا، وقبل أن أتابع العمل مع "رفيق" لنقل بقية العمل المطلوب منا من أماكنها إلى أماكن أخرى، جاءنا فجأة ذلك الريس الإنجليزي، تطلَّع بعينيه، ثم مصمص شفتيه، وجاءني يطلب مني أن أعيد ذلك الهرم إلى مكانه، وأبدأ من أول الصف، سألته:
- أليس هذا هو المكان الذي تريد لهذا النوع من الزجاج أن أنقله إليه وأعيد نقله مرة ثانية؟
- أنا أريدك أن تفعل هذا.
قالها في تكبر وعنجهية. فرددت عليه بغضب مشوب بتهكم..
- إنني لا أظن أن "استراليا" حكمها العثمانيون يومًا..
نظر إلي والشر يتطاير من عينيه، ولسان حاله يقول: كيف أجرؤ وأرد عليه هكذا. ثم سألني:
- ماذا تعني بقولك هذا؟ قلت له:
- كلامي واضح ولا يحتاج إلى تفسير.
تركني في عصبية، وظللت واقفًا مع "رفيق" دون أن أمد يدي إلى أي عمل..وإذ بأحد المديرين المسسئولين يأتي إليّ وبيده أوراق وينادي عليّ..
- مستر "ابراهيم" أنا عندي عمل خاص بك.
وإلى اللقاء مع ذكريات العمر اللي فات في "إستراليا". |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ١١ صوت | عدد التعليقات: ٥ تعليق |