فى مقال له نشر بعد صدور حكم المحكمة الدستورية العليا فى مصر بابطال العمل بحكم المحكمة الادارية العلياالخاص بالزام حضرة صاحب القداسة و الغبطة انبا شنوده الثالث, بالسماح للمطلقين الاقباط بزواج كنسى ثان, وصف صديقى العزيز, الاستاذ حنا حنا المحامى الدولى و النشط القبطى المعروف الذى اكن له كل التوقير و الاحترام و المحبة, القضاء المصرى بالشموخ. و اننى اذ اختلف مع سيادته فى هذا التقييم, كما ساحاول ان اوضح فى هذا المقال, ما زلت على ا تم ثقة ان هذا التباين فى الاراء لن يؤثر على علاقتنا الوثيقة القديمة قدر انملة.
ابدأ بالقول ان الاستاذ حنا مارس مهنة المحاماة فى زمن كان القضاء المصرى شامخا حقا. فعلى سبيل المثال اتذكر وقفة الشهيد المرحوم المستشار كامل بك لطف الله, وكان صديقا لوالدى, الذى القى من اعلى سطح فيلته بمصر الجديدة عشية حكم متوقع كان سيصدره بسجن احد "رجال" ( و يا شؤم الرجال) "الثورة"
الثانويين كان متهما بالابزاز او سرقة الاموال العامة و كان القاضى النزيه العادل قد رفض الانصياع لاوامر اصحاب السلطة حينئذ بالحكم ببرائة السارق. كان ذلك فى زمن لم يكتمل فيه افساد صعاليك الانقلاب المشؤم لضمير الامة و اخلاقياتها بعد كما هو الحال اليوم. كان ذلك ايضا وقت وقوف عبد الرزاق السنهورى باشا فى وجه الدكتاتورية و ان كان قد اهين فى مقر عمله بالتعدى عليه بحذاء واحد ابن حافيه من افراد العصابة. كانت هذه الوقفات الشمخة فى نهايات العهد "العادى" و لن اصفه باى لفظ رومانسى كما يفعل البعض عندما يطلقون عليه اسم "الزمن الجميل" بل كان مثل هذا السلوك امرا متوقعا و "عاديا", يقتدى فيه رجال مصر بالمبادىء القويمة و بما يقتضيه العدل و الصالح العام و كان هذا ما تتوقعه جموع الشعب. كان الاستاذ حنا عندئذ فى مطلع ممارسته للمهنة عندما كانت هذه هى الاحوال السائدة فى
المجتمع: عدالة باسقة شامخة مقسطة للحق باستقامة و جلال. بقيت هذه الذكرى فى حفيظة الاستاذ حنا وعلى ما يبدو انه تمنى لها ان تعود, فسبق الزمان بالعودة الى ماضيه واضفى على اقزام اليوم صفة هم ابعد ما يكونون عنها.
اما تقييمى الشخصى لواقع القضاء المصرى اليوم فهو انه سقيم عليل لا يمكن ان يوصف بالشموخ. فالصرح الشامخ يبقى منتصبا, بينما ليس فى قدرة السقيم الوقوف, داعيك عن الانتصاب. لا انفى وجود بعض فرسان للعدالة بين رجالها اليوم و لكن المحصلة النهائية لفاعليتهم لا تشير الى اي قدر من الشموخ.
ساعرض باقتضاب اسباب هذا الفشل:
اولا: التسييس. فقد رايناا جميعا مرارا و تكرارا كيف ان القضاء لا يحكم بما لا يرضى السلطة او يسبب لها الاحراج و ان كان فى ذلك ذبح العدالة. و مأساتى الكشح الاولى و الثانية مثال على هذا وان لم تكنا الوحيدتين فى هذا المجال. كذلك صراع القضاة الاباه لتأكيد رغبتهم فى الاستقلال عن السلطة. و يقال ان الاحكام تنحدر الى القضاة من جبال السلطة الاولمبية فيما قد يمس الجماعة الحاكمة من قريب او بعيد.
ثانيا: اللملمة. فابن القاضى لازم يطلع قاضى بصرف النظر عن قدراته الذهنيه و نزاهته الشخصية. فى هذا المجال اتذكر ان والدى كان موضع فحص دقيق لاحواله المالية و الاجتماعية و ميوله السياسية فى اوائل الخمسينات عندما رشح ابن عم والدتى المتفوق فى كلية الحقوق لوظيفة وكيل نيابة. لم يقتصر البحث عن اشقاء المحامى النابه و شقيقاته بل امتد الى اولاد و بنات عمومته و ازواجهن! فين الكلام ده اليومين دول؟
ثالثا: تديين العدالة. قد يكون ذلك بسبب اعلاء المادة السامة الثانية على غيرها من الرتوش الذى يؤكد المساواة والمواطنة كنوع من "الغلوشة" و ذر الرماد فى العيون. من عوامل افساد الدين للعدالة ايضا تعصب القضاه الاعمى للاسلام او تخوفهم من اصدار احكام عادلة لصالح قبطى فيعرضون انفسهم بذلك لغضب و عدوان بتوع الطز و رفقاء دربهم الذين لم يتورعوا فى الماضى عن القتل و الاغتيال.
رابعا: يقال ان الرشوة قد امتدت لايدى بعض القضاة.
اما عن حكم المحكمة الدستورية العليا المشار اليه اعلاه, فقد جاء لانقاذ السلطة من ورطه وضعها فى قلبها الحاج الحسينى بتاع الادارية. لم يكن من المستطاع ان ينصاع بابا الاسكندرية لحكم الحاج و يكسر حكم المسيح. و لم يكن من المستطاع ايضا فى هذا الزمن حتى "للمؤمن" بجلالة قدره, ان كان ما زال فى الحكم, ان يمس البابا البطريرك باى سوء. لقد تغيرت الاحوال :
اكتسب البابا البطريرك محبة شعبه الغامرة واحترامه العميق لان الكنسية غدت تحت رئاسته المؤسسة المصرية الوطنية الوحيدة التى نجحت و ازدهرت بينما فشلت و انهارت جميع مؤسسات الدولة الاخرى. لذلك لم يكن من المتوقع ان تعاد مهزلة 1981 . فاقباط اليوم يختلفون كثيرا عن اقباط نهاية عهد المؤمن. لقد اكتسبوا الثقة بالنفس و ارتفعت قاماتهم بالرغم من عنف الاضطهاد فهم نتاج اختيار طبيعى لا يبقى فيه المستضعف على قيد الحياة بل يفنى او ينحدر و يسقط بعيدا عن الكنيسة الى مراتب سفلى. كما ظهرت شروخ عميقة فيما كان يبدو للبعض انه صرح متعال يتباهون به على غير حق و يقذفون غيرهم بوابل من العدوان و الصلافة. ناهيك ايضا عن رد الفعل العالمى اذا شبه لاحدهم ان فى استطاعته استعادة الايام الخوالى و تحديد اقامة البابا (مثلا).
حكم المحكمة الدستورية العليا مسيس, يرمى الى ابعاد الحرج المتسبب عن مغامرات الصغار جاء من باب مجبر اخاك لا بطل.
و مع ذلك فلها منا الشكر الجزيل حيث انها جنبت الوطن نيران الفتنة.
تبقى بالاضافة الى ذلك حقيقة دامغة: فاين لقضاء يحاول التملص من مواجهة مجرمى مذبحة نجع حمادى بالحكم الرادع, او يفرض الاسلام على شماسين لان والدهم استسلم لغرائزه و انسلخ عن عقيدته رغبة فى جسد امرأة, او يجبن عن انصاف من اراد العودة الى المسيحية بعد انحراف ندم عليه, او من اعتنقها عن عقيدة و ايمان و ارادة حرة, او يتغاضى عن ردع قتلة الاقباط و مختطفى القصر من فتياتهم؟ اين الشموخ فى هذا الكيان العليل؟ ربما كان اختلاف حكمى على القضاء المصرى يعود الى طبيعة مهنتى كطبيب فجاء بذلك مغايرلرؤيا الاستاذ حنا الذى تناوله من منطلق المحامى. فعندما يصاب انسان كان شامخا قويا ينعم بكامل الصحة و تمام العافية بسرطان, ننفى عنه نحن معشر الاطباء صفة الشموخ و ننعته بالمرض و ان كان شامخا فى ماضيه.
لا نتردد فى ابلاغه بحقيقة الامر و حكم الواقع المحتم. من جهة اخرى تتطلب مهمة المحامى التفاؤل, يتشبث باى بادرة امل قد تبعد العقاب عن موكله, فيتعلق بكلمات التشجيع و مداعبات الامل. اما نحن معشر الاطباء فيتحتم علينا دائما ان نقول للاعور انه اعور بلا مواراة او تجميل. نفعل ذلك ليس من قبيل الاهانة او التشفى بل املا فى ان يتفهم المريض مدى خطورة الداء فيبتعد عن خداع الهراء و السحر و الشعوذة و الدروشة و يسعى الى طلب الدواء الناجع الفعال الذى ثبتت فعاليته. و بالرغم من ذلك, و كما يعلم الجميع كثيرا ما نهزم نحن ايضا امام مرض عضال كان قد استفحل و استشرى فى جسد كان شامخا فى يوم ما.
|