بخلاف أخيه الأكبر خالد، كان عبد الحكيم قليل الكلام لوسائط الإعلام، ولذا فإن اللقاء معه لا شك يحمل جديداً، غير أن السؤال هنا، هل لقاء ابن جمال عبد الناصر محاولة لكتابة التاريخ من جديد؟ أخذ السؤال يلح على ذهني وأنا ذاهب للقاء المهندس عبد الحكيم جمال عبد الناصر، بينما كان نسيم يوليو/ تموز يلوح في الأفق بعد موجة طويلة حارة في نهار القاهرة القائظ صيفاً يحمل تغيراً كما حملته ثورة يوليو .
لقد كان جمال عبد الناصر يريد أن يسرق ضوء القمر ويخبئه في يد امرأة جميلة تسمى “مصر”، حاول أن يهديها
طوق النجاة ويخلصها من ملكية استمرت تحكمها لسنواتٍ طوال، وآمن بقضية الفلاح المصري وبدوره في هذا البلد، لكن بعدما استطاع تبدل الحال وتغير على نحو مخالف، وضباط ثورة يوليو تحقيق حلم التحرر من الاستعمار لو استمر جمال عبد الناصر وصحبه في حلمهم الأول هل كان حال مصر مختلفاً؟ مهما كانت الإجابة يبقى عبد الناصر على الرغم من كل شيء أسطورة وصاحب كاريزما، وإحدى علامات التاريخ المعاصر في العالم مثل جيفارا وكاسترو، رجلاً عاش نظيف اليد، لم يمد يده إلى مال الدولة حتى رحيله هو وأسرته .
لذا كنا مع ابنه في محاولة لاستعادة زمن لا يستعاد .
هنا حوار مع “الخليج” بترتيب مع “وكالة الأهرام للصحافة”:
أبناء جمال عبدالناصر لم يصابوا بالغرور يوماً وكنا مجرد تلاميذ عاديين
طفولتك تحمل الكثير من الدلائل أثرت في شبابك فكيف كانت طفولة ابن الرئيس جمال عبد الناصر، وهل أثر البيت الناصري في تعاملك مع من حولك؟
أقول لك شيئاً قد تندهش له، لقد فوجئت بأنني ابن جمال عبد الناصر، لقد ظل هذا الهاجس مسيطراً عليَّ لفترة طويلة، كان استغراباً جميلاً وممتعاً في آنٍ واحد، عرفت هذه المكانة الأسطورية التي يتمتع بها جمال عبد الناصر ممن حولي فرحت أسأل أمي عمن يكون جمال عبد الناصر؟ كانت إجابات والدتي دائماً تحمل علامات البهجة والفخر بأنها تنتسب إلى هذا الرجل الزوج والأب .
حكت لي أن أبي هو قائد ثورة 23 يوليو 1952 وهو أيضاً رئيس مجلس قيادة الثورة؛ أول هيئة مصرية تحكم مصر منذ أن جاء الاسكندر الأكبر إلى مصر قبل الميلاد وحتى 26 يوليو، يوم خروج الملك فاروق من مصر، لتعرف مصر طعم الراحة والحرية والأمان .
كنت طفلا يحاول استيعاب العبارات الكبرى والتطورات الأكبر، ولم أستوعب الأمر بشكل كامل حتى كبرت .
ألا تعتقد أن هذا الأمر أصاب طفولتك بنوع من الغرور؟
على الإطلاق، إنني مازلت على تواصل حتى الآن مع زملائي الذين كانوا معي في المدرسة، فهم يدركون قبل غيرهم أن أبناء جمال عبد الناصر لم يصابوا بالغرور يوماً ما، لم يحس أحد من أصدقائي بأن عبد الحكيم متعال عليهم أو متعجرف كونه ابن جمال عبد الناصر، كما أن الجميع يعرف أن جمال عبد الناصر لم يتدخل ولو مرة واحدة في دراسة أولاده أو مدارسهم، كنا مجرد تلاميذ عاديين يرتدون المريلة ويكتبون بالطبشور على السبورة، ولعل هذا الأمر هو الذي جعلني أنجح في حياتي وأحقق تواجدي بعد رحيل والدي .
كيف كان يرى زملاؤك جمال عبد الناصر؟
كانوا يأتون معي إلى البيت أثناء الاحتفال بعيد ميلادي، ويأخذون صوراً تذكارية مع أبي ويتحدثون معه في كل القضايا، وكان يناقشهم ويفند كلامهم الذي يستمع إليه بشكل أبوي، ويدير نقاشاً جاداً معهم حول كل الأمور الخاصة والعامة في البلد، إلا أن هناك ثلاثة أعياد ميلاد لم يحضرها عبد الناصر وهي أعوام ما بعد ،68 ،69 70 بسبب انشغاله بالمجهود الحربي بعد النكسة .
دور والدتي
ولدت في فيلا منشية البكري وهي من ممتلكات الجيش، كيف كنت تراها وماذا عن مشروع تحويلها إلى متحف الذي سمعنا وقرأنا عنه منذ سنوات؟
لقد ولدت في هذه الفيلا ولم نتركها بعد رحيل والدي، بل ظللنا نعيش فيها حتى رحيل والدتي . إذ صدر قرار من مجلس الشعب وقتها بأن نظل في هذه الفيلا حتى رحيل آخر واحد منا على قيد الحياة، ثم يتم تحويل البيت بعد ذلك إلى متحف باسم ناصر، بعد أن رحلت والدتي رحلت ملامح طفولتي التي نقشت فيها، وأجمل لحظات طفولتي فيها التي عاشت فيها معي، لذا قررت الرحيل منها، ثم طلبنا منهم أخذ البيت وتحويله إلى متحف، حتى نستطيع رؤيته قبل أن نموت ونساعد في إنشائه، وسلمنا البيت إلى السلطات المختصة منذ رحيل والدتي السيدة تحية كاظم .
كيف تنظر لتأثير والدتك السيدة تحية كاظم في حياة والدك؟
كان دورها واضحاً وقوياً في حياة والدي، لم يكن يعنيها شيئاً في الحياة سوى جمال عبد الناصر وأولادهما، لم تكن لأمي حياة أخرى تخرج عن نظام زوجها وأولادها، وكانت السيدة المقربة منها هي ابنة أختها حرم المستشار محمد فهمي السيد، السيدة نادية غالب، حيث كانتا صديقتين دائمتين، ولم يكن لأمي صداقات أخرى، سوى زوجات أعضاء مجلس قيادة الثورة وهن تحديداً: زوجة زكريا محيي الدين، زوجة حسين الشافعي، والسيدة أم كلثوم، وكانوا في زيارات دائمة لها .
لكن والدتك لم تمارس دوراً اجتماعياً كما زوجات الرؤساء في كل دول العالم؟
أدركت والدتي منذ البداية أن الدور المنوط بها هو المساهمة في بناء حياة جمال عبد الناصر، وأن الدور الحقيقي لها أن توفر لهذا الرجل كل الإمكانات ليعيش حياة هادئة وآمنة، وكان هذا هو الدور الاجتماعي والوطني الحقيقي بالنسبة لها شأن كل السيدات المصريات، بهذا تكون أمي قد لعبت دوراً وطنياً في حياة جمال عبد الناصر ولكن بشكل غير مباشر .
ما أكثر شيء كان يستفزها ويستفز والدك؟
أن يتدنى المستوى التعليمي لي أو لأحد إخوتي، ومن هنا تبدأ قسوتها إزاء هذا التقصير، أما والدي فلم يكن قاسياً معنا، ولم نكن نخاف منه، لكن كانت له هيبة شديدة، لذا كان أكثر ما يخيفني أن أضع نفسي في موقف يؤنبني بسببه .
"هيبة" والدي
هل تقصد أن كاريزما عبد الناصر أثرت فيك وأنت ابنه؟
“هيبة” كنت أحس بها، ولا أستطيع وصف هذه الهيبة أو وصف إحساسي بها أما الكاريزما فقد كان يشعر بها من في الخارج .
هل كان يلعب معك؟
نعم كان يلعب معي مثل أي أب مصري، وكنا نشغله في وقت فراغه، وهو أب طبيعي يمارس حياته مع أولاده في كل الهوايات التي يحبونها باستثناء سنوات ما بعد النكسة .
هل من الممكن أن تصف المكان . . الزمان . . الإحساس الخاص بك يوم وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر؟
كنا في بداية العام الدراسي حيث نذهب حسب التقاليد حينها في فترة النصف الثاني من العام، إذ كانت هناك فترة لذا عدت إلى بيتنا متأخراً، أذكر جيداً، كان أول أسبوع دراسي، وكان والدي له أكثر من يوم ينام في فندق الهيلتون حيث مؤتمر “القمة العربية الذي خصص لأحداث أيلول الأسود في الأردن”، وفي الليل عرفت أنه عاد إلى البيت متأخراً ودخل حجرته ونام، واستيقظت كالعادة بعد شروق الشمس للذهاب إلى المدرسة، وعرفت حين عدت من المدرسة عصراً أنه مازال في حجرته، ذهبت إليه وسلمت عليه، وسألني عن الدراسة وقال لي: حكيم . . أنت في ثانوية عامة لازم تذاكر وتجيب مجموع كويس، وفي أثناء هذا الحديث كان يرتدي بدلته حيث سيذهب لوداع أمير الكويت وجاء وقت الغداء وجلسنا ننتظره لكي يتناول الغداء معنا .
لا أستطيع أن أنسى هذا اليوم حتى أموت، فتح باب المصعد وخرج منه والدي، بدا وجهه منهكاً جداً ودلف إلى حجرة نومه مباشرة، دخلت أمي وراءه، وبدأت حركة غريبة في البيت، أناس داخلون وغيرهم خارجون، ثم أطباء، ثم سامي شرف وحسين الشافعي وعلي صبري والفريق فوزي وشعراوي جمعة وهيكل ومحمد فائق ومحمد أحمد جاؤوا مسرعين وبعد ذلك أتى أنور السادات .
بدأوا بإجراء عملية تدليك سريع لوالدي لتنشيط الدورة الدموية والقلب، وأصبت حينها بالرعب وأخذت أدعو الله أن ينقذه، وفجأة ارتعش جسمي كله، ثبت مكاني، فقد اخترقت صرخة أمي أذني، فعرفت أن جمال عبد الناصر مات . خرج كل من كانوا في الحجرة، ودخلت وأفراد أسرتي إلى حجرته، وأصبت بالانهيار .
والدتي لم تطق الحياة
كيف كان رد فعل والدتك حين تولى الرئيس الراحل أنور السادات الحكم خلفاً لوالدك؟
أصيبت أمي بمرارة فظيعة، لم تطق الحياة بعد رحيل والدي، لم تصدق ما انهال من هجوم على أبي، لم تكن تتخيل حجم النفاق، كانت تعتقد أنهم ينافقونه حباً، لكن كتاباتهم عنه بعد تولي السادات كانت فظيعة وبشعة، “المتحولون” هو أصدق تعبير يلصق بهؤلاء الكتبة .
لقد كان عبد الناصر يؤمن بالفلاح المصري، كان يضعه في اعتباره، كان الفلاح قضيته الرئيسية، وكان يرى أن هذه مصر، وليست مصر الجونة والقطامية والمنتجعات . .! لقد عاش عبد الناصر لأجل مصر شبرا وباب الشعرية والحسين والسيد زينب والمنيا وسوهاج، لقد قام عبد الناصر بالثورة لأجل المصريين .
هؤلاء المصريون كانوا هم “العزاء” لوالدتي، وحين كانت تخرج الفئران من جحورها وتهاجم جمال عبد الناصر كانت أمي تذهب إلى الحسين حيث تلتقي بالناس العاديين الذين يحتفون ويرحبون بها ويريدون حملها من الأرض، وهذا ما كان يريحها كثيراً وتدرك أن حب الناس هو الأبقى .
الجاسوس
هل تقصد هجمات مصطفى أمين؟
تقصد الجاسوس مصطفى أمين .
ولكنه كاتب له مكانته في الصحافة المصرية والعربية؟
إنني أقولها لك وأصر عليها مصطفى أمين جاسوس، وقضيته موجودة في متحف المخابرات العامة حتى الآن، ولو لم يكن جاسوساً فأنا أطلب من أهله أن يرفعوا عليّ قضية، إنني على أتم الاستعداد لذلك، وليقولوا إنني أسب أباهم وأصفه بالجاسوس .
يبدو أن الهجوم على والدك مازال يسبب لك الازعاج حتى الآن؟
على الإطلاق، لقد أصبحت لدي حصانة كبير مما يقال .
انتحار عبدالحكيم
كيف استطاع عبد الناصر أن يقتل صديق عمره الذي بدأ معه مشوار الانتصارات والانكسارات منذ البداية؟
قضية عبد الحكيم عامر تحتاج إلى التفكير الجيد، ولا أعرف لماذا تصر على حرمان المشير من شرف الانتحار، انتحار قائد عسكري هزم في الحرب فلم يتحمل صدمة ومرارة الهزيمة فانتحر . . ثم إن هذه ليست هي القضية الرئيسة، نكسة 1967 الأسباب التي أدت إليها .
لكن عبد الناصر مشارك في هذه النكسة فكان الأولى أن ينتحر؟
لقد تحمل والدي المسؤولية كرئيس دولة وأعلنها أمام العالم كله، لم يتهرب أو يتخلى عن مسؤوليته فقدم استقالته من الرئاسة، غير أن المسؤولية الكبرى تقع على قائد القوات المسلحة الذي فشل في إدارة العمليات العسكرية .
ماذا عن الاعتقالات التي تمت في عصر جمال عبد الناصر؟
حكاية الاعتقالات هذه مبالغ فيها، فالموجودون الآن في أي قسم من أقسام الشرطة أكثر من الذين اعتقلوا أيام جمال عبد الناصر، وأعتقد أن الرئيس السادات هو الذي ضخم موضوع الاعتقالات هذا، وهو الذي اعتقل مصر كلها قبل اغتياله بشهر .
وما الذي استفاده عبد الحكيم من اسم جمال عبد الناصر مادياً؟
مادياً لم أستفد من اسم والدي، لكني استفدت من قيمة جمال عبد الناصر ومكانته، استفدت الكرامة والحرية والعزة والمكانة .
إذن أنت ناصري؟
طبعاً أنا ناصري جداً جداً .
وماذا عن علاقة الحزب الناصري بوالدك؟
لا تعليق . |