بقلم: منير بشاى
دواوين الحكومة المصرية كثيرة ومكتظة بالمكاتب التى تشتمل على أدراج لا حصر لها. وكلما زادت أهمية المسئول الحكومى، كلما كبر مكتبه وكثرت أدراجه. والأوراق العادية تأتى وتذهب من فوق المكاتب. ولكن هناك أوراق ذات طابع خاص، عندما تصل إلى المكتب تُولد حيرة فيما ينبغى أن يعمل بشأنها، وتكون النتيجة أن تظل فى مكانها على المكتب. وعندما يطول الإنتظار فوق المكتب، تتسرب هذه الأوراق إلى داخل الأدراج، وتبقى هناك إلى أن يحين الوقت لإخراجها (إذا حان). والملاحظ أن معظم ما هو حبيس داخل الأدراج يتعلق بالشئون القبطية.
أُثيرت هذه الظاهرة الغريبة مؤخرًا فى حديث لقداسة البابا "شنودة" مع الإعلامية "لميس الحديدي" فى برنامجها التلفزيونى "من قلب مصر".
بدأت "لميس" برنامجها بسؤال قداسة البابا: هل قداستك مستريح لخروج مشروع قانون الأحوال الشخصية لغير المسلمين، أخيرًا من أدراج وزارة العدل؟
وكان رد قداسة البابا، إنها خطوة طيبة، ولكن يتوقف الأمر على النتيجة. وعادت "لميس" لتسأل قداسة البابا: إيه إللى خاللاه فضل فى الأدراج كل هذه الفترة؟
فرد قداسة "البابا": يُسأل فى ذلك إللى حطه فى الدرج.
ثم سألت "لميس": كم سنة إتحط فى الدرج؟ فقص لها قداسة البابا قصة المشروع بداية من سنة ١٩٨۰. وهنا سألت "لميس": ما الذى دعا الدولة لخروج المرحوم (تقصد مشروع القانون) أخيرًا من الدرج؟ وكانت إجابة قداسة البابا ذكية ومعبرة: إسألى الدولة.
ومع أن أسباب وضع القضايا القبطية فى الأدراج تعرفها الدولة على وجه اليقين فهى صاحبة القرار. ولكن هذا لا يمنع إننا نستطيع أن نخمن هذه الأسباب أو بعضها، ونعتقد أن تخميننا يمثل كثيرًا من الصدق. ولكن لنحاول أولاً أن نعطى بعض الأمثلة عن بعض الأدراج والمسائل القبطية التى كان مصيرها أن تُحبس فى الأدراج.
درج القوانين المؤجلة
والمثال لذلك هو مشروع قانون الأحوال الشخصية الذى أشرنا إليه، والذى قُدّم سنة ١٩٨۰ بعد موافقة جميع الطوائف المسيحية عليه. وفى سنة ١٩٩٨عندما تقرّر تحريك القانون، طلبوا إعادة صياغته، وفعلاً أُعيدت صياغته وتقديمه، واستمر داخل الدرج.
وللمرة الثالثة فُتح الدرج ۲٠٠٨ ليُغلق من جديد. إلى أن تم تفجير القضية بعد حكم المحكمة الإدارية العليا بإلزام الكنيسة بالزواج الثانى للمطلقين، وعندما رفضت الكنيسة مخالفة الإنجيل، حدثت مواجهة أدت بالدولة للتدخل وأخرجت القانون من الدرج، ولا نعلم إذا كان سيتم البت فى مشروع القانون أخيرًا أم سيعود للأدراج مرة أخرى؟
درج التقارير المنسية
والمثال لذلك تقرير "العطيفى" الذى يرجع إلى سنة ١٩٧٢، وكان المرحوم المستشار "جمال العطيفى"- وكيل مجلس الشعب- قد كُلّف بعمل تقرير بعد حادثة "الخانكة" الذى حُرقت فيه كنيسة. وهو عبارة عن دراسة لأسباب الفتنة الطائفية المرتبطة ببناء الكنائس، وإقتراح حلول لها.
ولكن منذ وقت تقديم هذا التقرير وحتى تاريخه، لم توضع هذه الإقتراحات موضع التنفيذ، ولم تُدرس، وظل التقرير قابعًا داخل أدراج مجلس الشعب.
درج القضايا الصورية
ومثال ذلك القانون الموحد لبناء دور العبادة، وهو مشروع لقانون من المفروض إنه يساوى فى الإجراءات بين بناء المسجد وبناء الكنيسة (كلام جميل). وقد تم صياغة القانون، وكنا نعتقد أنه قد وصل إلى مجلس الشعب لنقاشه وإقراره، ولكن مجلس الشعب ظل يؤجل مناقشته من دورة إلى دورة، إلى أن فاجأنا الدكتور "سرور" أخيرًا بقوله "إن مشروع القانون لم يصل إلى مجلس الشعب". ويبدو أن مشروع القانون قد تاه بين الأدراج الحكومية، والمشكلة أن من أخفاه لم يقل لنا أين أخفاه؛ حتى لا نبحث عنه ونجده ونحركه. أو بمعنى آخر..علينا أن ننسى الموضوع من أساسه.
درج التحقيقات التهديدية
مثال ذلك تحقيقات النيابة التى عملتها مع نيافة الأنبا "ويصا" عقب مأساة "الكشح"، حيث تم إستجوابه وتوجيه عدة إتهامات له فى غاية الخطورة تتعلق بتعكير السلام الإجتماعى. ولكن التحقيق لم يحوَّل للقضاء، وأيضًا لم يُحفظ، بل ظل معلقًا، ووُضع فى الأدراج، حيث يمكن إستدعائه فى أى وقت ليكون أداة تهديد تهدف إلى إسكات صوت الأسقف، وأيضًا إنذارًا مقنّعًا ضد كل رجال الكنيسة، إذا تجرأوا ورفعوا صوتهم بالشكوى.
درج العدالة المؤجلة
فى كل عمليات القتل والسرقة والإعتداءات ضد الأقباط، لم تحظ المحاكمات بإجراءات سريعة حازمة ورادعة. بدايةً من "صنبو" إلى "أبو قرقاص"، ومرورًا بـ"الكشح"، و"فرشوط"، وإنتهاءً بـ"نجع حمادى".
كان المُتّبع دائمًا هو تأجيل القضايا من جلسة إلى جلسة على مدى شهور وسنين، إلى أن تهدأ الأمور ويسكن غضب الأقباط، ثم يأتى بعد ذلك الحكم هزيلاً لا يتماشى مع حجم الجريمة. حقًا لقد صدق المثل الإنجليزى القائل: عدالة مؤجلة هى عدالة منتقصة. Justice delayed is justice denied
ما الهدف من وضع الشئون القبطية داخل الأدراج؟
لماذا تهتم الدولة بدراسة المشاكل القبطية وصياغة قرارات أو مشاريع قوانين، ثم بعد ذلك تُقرّر وضعها فى الأدراج؟ هناك أسباب كثيرة فيما يلى عينة منها:
١- التظاهر بالإهتمام بالمشكلة فى وقت ظهورها؛ لإقناع الأقباط أن الدولة جادة فى حلها، كمحاولة منها لإمتصاص غضب الأقباط.
٢- بعد ذلك توضع قضايا الأقباط فى الأدراج دون حل؛ لمحاولة جس نبض إمكانية تعايش الأقباط مع المشكلة دون علاج، وفرض الوضع الراهن عليهم على إنه أمر واقع.
٣- وقد توضع المشاكل فى الأدراج، عسى أن تحل نفسها بنفسها، أو أن يتم استمرار تأجيل التعامل معها إلى أن ينتقل الحكم إلى قيادة أخرى ترث هذه المشاكل المعلقة.
٤- وربما يتم التحفظ بالمشكلات داخل الأدراج حتى يوضع الأقباط فى حالة الإعتماد الكامل على الدولة، بعد أن يقتنعوا أن الدولة هى التى فى يدها كل شىء، هى التى تستطيع أن تحيى هذه القضايا أو تتغافلها. هى التى يمكنها أن تحل مشاكل الأقباط أو أن تحول حياتهم إلى جحيم.
٥- وتوضع المشاكل القبطية داخل الأدراج حتى تتفادى الدولة الإصطدام بالمتأسلمين المتعصبين فى المجتمع المصري، بهذا يمكن إقناع هؤلاء أن الدولة حريصة على ترجيح كفة المسلمين على المسيحيين، وذلك حتى تكسب رضى هذه العناصر لأنهم المصدر الذى يمكن أن يسبب لهم المتاعب.
ولكن الأدراج التى تحبس فيها الدولة القضايا القبطية، هى مجرد رمز لسياسة عامة تتعلق بنظرة الدولة إلى المواطن القبطى نفسه، فيبدو أن المواطن القبطى أصبح الآن حبيس أدراج إستبعاده من ذاكرة الوطن. والنتيجة أن الدولة أصبحت تتعمد إقصاء الأقباط من التواجد فى المجتمع المصري، فلا يُسمح بتاريخهم أن يُدرّس فى برامج التعليم، وكأنهم نبت شيطانى لا أصل له، ولا يريدون أن يروا كنائسهم ترتفع، ولا صليبهم أن يظهر، ويحرصون على إبعادهم عن كل موقع مرموق، حتى وإن كان مجرد السماح لأبنائهم اللعب فى ماتش لكرة القدم!! |