بقلم : د. عبدالخالق حسين مقدمة: لماذا هذا الكتاب؟ ولكن المشكلة أن معظم المثقفين والباحثين كانوا يتجنبون الخوض في آفة الطائفية لاعتقادهم بأن أي كاتب يتورط في هذا الموضوع الشائك والمعقد، ويدين التمييز الطائفي سوف لن يسلم من تهمة الطائفية والترويج لها، كما ويرى آخرون أن في إثارة مشكلة الطائفية ضرراً على الوحدة الوطنية، لذلك اعتقد هؤلاء أنه من الأفضل الابتعاد عن الخوض في هذه المشكلة. وهناك فريق ثالث ينكرون وجودها أصلاً، ويكتفون بإلقاء اللوم على صدام حسين وحده المسبب لكل ما حدث في العراق، وفريق رابع وهم من أنصار البعث الصدامي، وبعد سقوط حكمهم، ألقوا اللوم في الاقتتال الطائفي على أمريكا، وأنكروا وجود الطائفية قبل ذلك التاريخ!! إن موقف أولئك وهؤلاء لا يقدم تفسيراً للمعضلة العراقية المزمنة فحسب، بل ويلقيها في مستنقع من الضبابية، ويضفي عليها طابعاً هلامياً لا يصب إلا في صالح المنتفعين من الطائفية ذاتها. من نافلة القول أن تعدد المذاهب في أي دين مسألة طبيعية، ودليل على حيوية هذا الدين أو ذاك، ولست معنياً في هذا الكتاب في تفضيل أي المذهبين (السنة أو الشيعة)، ولا بالجانب الفقهي منهما، بل كل ما يعنيني هو فضح التمييز الطائفي، واضطهاد طائفة حاكمة متمذهبة لطائفة أخرى محكومة. لقد لعبت الطائفية دوراً رئيسياً في الأزمة العراقية، ولا أغالي إذا قلت أنها أم الأزمات، ومنها تولدت وتفرعت الأزمات الأخرى. ولطرح هذا الموضوع وتوضيحه، لا بد من الصراحة في قول الحقيقة، إذ لا يمكن مناقشة الأزمة التي نواجهها، وإدراك جسامتها، ومخاطرها، وأسبابها الحقيقية، وبالتالي إيجاد الحلول الناجعة لها، ما لم نلتزم بالصراحة، والنزاهة، والحيادية العلمية في قول الحقيقة دون مواربة، أو تزلف، أو مداهنة، أو خوف من هذا وذاك، مع علمنا أن قول الحقيقة كاملة لا تخلو من مخاطر. بعد كتابتي للمسودة الأولى لفصول هذا الكتاب في التسعينات من القرن المنصرم، عرضتها على صديق أثق به، وهو من العارفين والمهتمين بالشأن العراقي، لمراجعته والإستفادة من ملاحظاته النقدية. ولكن بعد قراءته للمسودة مشكوراً، وجدت الصديق متردداً وغير مشجع لنشره، إذ شعرت أنه من أولئك الذين دأبوا على اعتبار كل من يخوض في مشكلة الطائفية بأنه طائفي ومروجاً لها. وهذا بالضبط ما حدث لي في الآونة الأخيرة عندما نشرت بحثاً بعنوان (دور الطائفية في الأزمة العراقية) الذي قدمته في الملتقى الفكري الأول في بغداد في شهر تشرين الثاني/أكتوبر 2009، وبدعوة من وزارة الدولة لشؤون الحوار الوطني، حيث نشر أحد الكتاب، ورغم أنه محسوب على الليبراليين، مقالاً غاضباً اتهمني فيه بالطائفية ودون أن يذكرني بالاسم. وسبب آخر دفعني لتحديث هذا الكتاب وفق المستجدات ونشره، هو ما تلقيت من تشجيع من العديد من الزملاء الكتاب والأخوة القراء الكرام الذين اطلعوا على البحث المذكور آنفاً، فأقترحوا عليَّ التوسع فيه وتحويله إلى كتاب. لذلك عدت إلى مسودات كتابي السابق، وبدأت بمراجعة فصوله وتنقيحها وتحديثها وفق ما حصل من تداعيات بعد سقوط حكم البعث في 9/4/2003، وانفجار الدمامل الطائفية، حيث بدأ القيح العفن يتدفق مدراراً يزكم الأنوف، على شكل اقتتال بين أبناء الشعب الواحد والقتل على الهوية الطائفية. لذلك أعتقد أنه حان الوقت لنسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية، ونتجنب سياسة النعامة في طمس رأسها في الرمال. لذا فقد آن الأوان لمواجهة هذه الحقيقة ومهما كانت مرة، فالمهم أن أقدم مساهمة جادة في حل الأزمة العراقية المزمنة، ورغم احتمال ما يلصق بي من اتهامات. فالمهم أن أكون منسجماً مع نفسي وضميري في قول الحق كما أراه، إذ كما ذكرت مراراً أن الطبيب الذي ينبه الناس من وباء ما، ويحذرهم منه، لا يعني أنه يعمل على تفشي هذا الوباء بينهم، بل لحثهم على الوقاية منه، فالوقاية خير من العلاج كما تقول الحكمة. ورب من يسأل: لماذا تشغل نفسك والقراء معك بالصراع الطائفي وفي هذا الوقت بالذات حيث انشغل العالم الغربي بغزو الفضاء وبناء محطة فضائية واكتشاف الجينوم البشري (الخريطة الوراثية)، وأخيراً نجح العلماء الأمريكان في صنع الحياة في المختبر؟ والجواب هو أن هذا الكتاب ليس موجهاً للمجتمعات المتقدمة، بل هو موجه لمجتمعنا العراقي الذي مازال في مقدمة اهتماماته قضايا مر عليها 14 قرنا من مثل من هو الأولى بالخلافة، أبو بكر أم علي؟ فالمجتمعات البشرية ليست متساوية في درجة تطورها، ولا تسير في تقدمها الحضاري على نسق واحد، فمنها في المقدمة كما هي المجتمعات الغربية، ومنها مازالت في المراحل البدائية، ومجتمعات بين بين. ومجتمعنا العراقي مع الأسف أعيد به القهقرى، فصار الصراع الطائفي والقبلي من الأمور التي تهدد المجتمع بالدمار الشامل. وفي هذه الحالة ليس صحيحاً السكوت عن هذا الوضع بحجة أن هناك مجتمعات متقدمة جداً. لذلك نعتقد أن الطائفية أشبه بالعقدة النفسية المستحكمة بسلوك الإنسان، لا يمكن أن يشفى منها المريض إلا إذا تم البحث في جذورها وأسبابها وبالتالي علاجها واستئصالها. كما ويجب العودة إلى تاريخنا لنفهم على ضوئه الحاضر ومآسيه، ونخطط لمستقبل أفضل، وبذلك نحمي الأجيال القادمة من تكرار هذه المآسي. لذا فمن الصعب الاتفاق مع الرأي القائل بان الوضع المأساوي الذي عاشه ومازال يعيشه الشعب العراقي الآن هو نتيجة سياسات وممارسات شخص واحد اسمه صدام حسين ونظامه، فصدام وحزبه لم يأتيا من فراغ، بل من تفاعل وتداخل عوامل تاريخية، وجغرافية، وديموغرافية، واجتماعية، موضوعية، وذاتية في تاريخ العراق الحديث. وما النظام الدكتاتوري البعثي الذي دمر العراق إلا نتيجة لانتصار قوى الظلام في الدولة العراقية التي تأسست على مبادئ خاطئة، فاعتمدت الطائفية والعنصرية، والقبلية، وزرعت الألغام في هياكل الدولة وبنيتها الإدارية والسياسية والعسكرية، لتنفجر فيما بعد وفي الوقت المناسب. وقد حدث ذلك في الماضي متنكراً بواجهات سياسية مختلفة، وحدث بعد سقوط حكم البعث بوجهها الطائفي الحقيقي. أما قسم الملاحق فيضم أربعة بحوث نعتقد لها علاقة بمادة الكتاب، الأول: عن نظرية "حكم ولاية الفقيه"، والثاني عن تركة حكم البعث ودوره في الخراب البشري في العراق، أما الثالث فعن المشكلة الكردية والحلول المقترحة، والملحق الرابع والأخير بعنوان: دور الانفجار السكاني في حروب الإبادة، إذ وجدت من المفيد نشر هذا البحث لدوره في تفجير الصراعات بين مكونات المجتمع الواحد وتفعيل الاختلافات القومية والدينية والمذهبية في الشعوب وإثارة الأزمات وأخيراً، أود التأكيد ثانية على أن الغرض من هذا الكتاب هو البحث في جذور مشكلة الطائفية وفضح هذا المرض السياسي-الاجتماعي الخطير، وإيجاد الحلول المناسبة لها، والتخلص منها إلى الأبد من أجل تسخير طاقات الشعب وثرواته للبناء والتقدم بدلاً من تبديدها في صراعات مدمرة لا طائلة من ورائها، وهي من صنع الماضي الغابر الذي أكل الدهر عليه وشرب. |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت | عدد التعليقات: ٠ تعليق |