أثارت الفتوى الأخيرة التي صدرت عن جامعة دار العلوم ديوبند، بشأن قضية عمل المرأة المسلمة، جدلا واسع النطاق داخل المجتمع المسلم في الهند. وقالت الجامعة في فتواها: «لا يجوز للمرأة المسلمة العمل في أي مؤسسة حكومية أو خاصة تسمح بالاختلاط بين الرجال والنساء في مجال العمل أو أن تتحدث النساء إلى الرجال دون حجاب». ويرجع إنشاء جامعة ديوبند إلى عام 1867، حيث تأسست كجامعة إسلامية تقوم على تدريس المذهب الحنفي، أحد المذاهب الأربعة الأكثر انتشارا في العالم الإسلامي. صدرت الفتوى بعد عرض سيدة كنَّت نفسها بـ«كوثر» سؤالها على موقع «دار الإفتاء» الذي ينشر فتاوى جامعة دار العلوم الإسلامية ديوبند والذي قالت فيه: «هل يمكن للمرأة المسلمة في الهند العمل في المؤسسات الحكومية أو القطاع الخاص؟ وهل رواتب هذه المؤسسات حلال أم حرام؟».
وأثارت الفتوى عاصفة من الجدل، ليس فقط على مستوى الإعلام الوطني، بل داخل المجتمع المسلم، وقدمت ذريعة أخرى للمتحاملين على المجتمع المسلم بمهاجمة ثوابت الإسلام. أثارت الفتوى حيرة عوام المسلمين وبدوا مشتتين بين رجال الدين والعلمانيين والإعلام. نقلت وسائل الإعلام الهندية خبرا أن الجامعة الإسلامية أفتت بحرمة قبول الأسرة دخل المرأة.
وقد نقلت جميع الصحف اليومية والقنوات التلفزيونية الفتوى باهتمام وإدانة بالغة. وفي إظهار غير مسبوق للتضامن، قام الكثير من الشخصيات البارزة في المجتمع الإسلامي في الهند بالتضامن مع النساء والمنظمات النسائية في الهند لمعارضة الفتوى، زاعمين أنها لا تصلح للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع المسلم.
هاجم الصحافي والخبير في القضايا الإسلامية حسن كمال، مشايخ جامعة ديوبند بالقول إن فتوى تجريم العمل لا محل لها في المجتمع الهندي، حيث يعاني عدد كبير من المسلمين الفقر، وقال كمال الذي يشغل رئيس تحرير صحيفة «سهافات» اليومية التي تصدر باللغة الأوردية: «يجب على المسلمين تجاهل هذه الفتوى وأن يتركوا النساء يخرجن إلى العمل والدراسة مثل نظيراتهن في المجتمعات المتقدمة من العالم، إذ لا يمكن للمجتمع أن يتقدم إذا ظلت المرأة متخلفة». ما إن أذيعت الفتوى حتى لقيت احتجاجات واسعة من قادة المجتمع وطالبات وعلماء مسلمين ونساء عاملات.
فقالت شايستا أمبار رئيسة مجلس قانون الأحوال الشخصية لعموم المسلمات الهنديات في لوكناو: «بعد سنوات من النضال، فازت المرأة بـ33% من المؤسسات والبرلمان الهندي، والمرأة المسلمة تشارك بنصيب وافر في هذه النسبة. وهناك محادثات لفرض حصة محددة للمسلمات الهنديات في الوظائف الحكومية. لذا، فمن الجلي أن تكون هذه الفتوى مؤامرة من جانب بعض رجال الدين المسلمين لحرمان المرأة المسلمة من هذه الميزات الكبيرة. ونظرا لعدم مقدرة رجال الدين هؤلاء على تقديم وجبة واحدة لعشرات الآلاف من الفقراء والمعزين من النساء وأسرهن، لذا يجب عليهم أن يتوقفوا عن إصدار فتاوى تحاول قطع سبل كسب العيش عنهن».
من جانبها، تقول الدكتورة رفيقة بيغوم، التي تعمل طبيبة في مستشفى دلهي، إنها وفقا لقانون المستشفى لا تستطيع ارتداء الحجاب، بيد أنها تعتقد أنها مسلمة ملتزمة وتقول: «لقد ربيت تربية إسلامية جيدة. حتى وإن كنت لا أرتدي الحجاب، فإنني قادرة على تجنب الشرور والآثام التي يتحدث عنها علماء جامعة ديوبند».
على الجانب الآخر، يبدو أن جامعة ديوبند وجدت مناصرين أيدوا الفتوى. فقد لقيت الفتوى تأييدا بدرجات متفاوتة من المجلس الملي لعموم الهند وأكاديمية رضا وجامعة الأمم لعموم المسلمين السنة في الهند والمنظمات الإسلامية.
وقالت مؤنسة بشرى عبيدي من المجلس الملي لعموم الهند: «لا يجوز للمرأة المسلمة مخاطبة الرجل الأجنبي دون حجاب. فنحن نعلم كيف تتعرض النساء للمضايقات في أماكن العمل التي يخالطهم فيها الرجال. ولو أن المرأة لبست حجابها فستقل مثل هذه المضايقات بدرجة كبيرة». بينما أدانت جماعة «عمارة شريعة»، التي تنشر فتاواها على موقع دار الفتوى تسييس الفتاوى، قائلة إن الفتاوى تصدر في ضوء الكتاب والسنة عندما يطلب منها ذلك.
وقال الشيخ سيد أنيصور رحمان قاسمي، الأمين العام لجماعة «عمارة شريعة»: «يجب ألا تسيس الفتاوى. وقد بينّا أن على المرأة أن ترتدي الحجاب في المكتب وألا تختلط بزملائها من الرجال». وألقت جماعة «عمارة شريعة» ورئيسها الشيخ سيد نظام الدين دلهي باللائمة على الإعلام في الالتباس الذي وقع بخصوص الفتوى. وأضاف رجل الدين البارز في الهند: «إذا أردت نشر فتوى، فعليك نشر السؤال الخاص بها». وأشار إلى أن فتوى جامعة ديوبند متاحة على موقعها على الإنترنت، لكن بعض الأشخاص ذوي الدوافع السيئة والنوايا الخبيثة نشروا الفتوى فقط وتجاهلوا السؤال الذي نشرت من أجله.
وقال قاسمي إن تسييس الفتاوى يشوه سمعة المرجعيات الدينية. وأوضح أن هناك بعض المؤسسات التي تود إظهار هذه المؤسسات الدينية في صورة سيئة.
وعبرت روكسانا لاري من مجلس قانون الأحوال الشخصية لمسلمي الهند عن إدانتها للفتوى بالقول إن هناك بعض الحالات التي عملت فيها النساء في عهد النبي وأشاد بها، فالسيدة زينب، إحدى زوجات الرسول، كانت لها تجارة من الجلود وأنفقت أموالها في سبل الخير.
واستشهدت لاري بواقعة أخرى وقعت خلال حياة النبي، حيث كانت زينب زوجة عبد الله بن مسعود تعمل وتعيل زوجها وعددا من الأطفال الأيتام الذين كانوا تحت رعايتها. وعندما سألت النبي عما إذا كان عملها وإنفاقها على أولادها حلالا أخبرها النبي بأنها ستؤتى أجرها مرتين.
ومن ناحية أخرى، تلقى جاويد أختار عضو مجلس الشعب الهندي والشاعر ورئيس حزب مسلمين لديمقراطية علمانية، رسالات بريد إلكتروني تفيض بالكراهية والتهديدات بالقتل على وصفه الفتوى بـ«السخيفة». بيد أن الشابات الهنديات المسلمات واجهن الفتوى بردود فعل حادة، بالقول نعتقد أن الوقت قد حان لأن ينظر رجال الدين في المسائل الحقيقية التي أصابت المجتمع مثل التخلف الاقتصادي. فتقول ريحانة صديقي، (23 عاما)، وتعمل مهندسة: «لا أعلم ما الذي يجعلهم يعتقدون أن من الممكن أن تتوقف النساء عن العمل. وأنا لدي سؤال لهم: هل فكروا في طريقة ما لتحسين النظام الاقتصادي الاجتماعي للمسلمين في الهند؟ وإن كانت الإجابة بالنفي فينبغي لهم الشروع في ذلك».
وعلى الرغم من قول علماء الجامعة إن الفتوى لم تحظر على النساء العمل مع الرجال إذا كانت تلبس ملابس محتشمة، فإن الكثير من النساء المسلمات كان لهن رد فعل عنيف تجاهها. فتقول تسنيم، التي استشاطت غضبا من الفتوى: «حتى وإن كانت الفتوى تتعلق بشروط الزي فلن أخضع لها، هم رجال دين وليسوا قضاة، عملهم الوعظ وأنا من يقرر في ما بعد، كما يجب عليهم أيضا أن يضعوا في حسبانهم، أن تلك الفتوى يمكن أن تمنع المئات بل الآلاف من الهنديات من النزول إلى العمل. ولذا، ما الهدف من نشر مثل هذه الفتاوى المثيرة للجدل؟».
وتضيف ريحانة صديقي: «في الوقت الذي يسعى فيه المسلمون الهنود لمحاربة الفقر والأمية والتخلف، تأتي هذه الفتاوى لتعيق أي تقدم تحقق في هذا الصدد. فارتداء الحجاب أو عدم ارتدائه مسألة شكلية، فالكل يعتمد على نية الإنسان واستشهدت بحديث الرسول: «إنما الأعمال بالنيات». وأضافت إذا كانت المرأة ترتدي الحجاب وتمارس الأعمال المحرمة، فهل ستكون مسلمة ملتزمة؟ بالطبع لا؟
وتصف حبيبة التي تبيع الفاكهة على الرصيف في دلهي الفتوى بغير العملية. وأشارت إلى أن المرأة العاملة في الهند ستتجاهل الفتوى، لأنهم يصدرون هذه الفتاوى غير الواعية دون مراعاة لواقع المسلمين على الأرض.
وخلال السنوات القليلة الماضية، تزايدت أعداد الطالبات المسلمات اللاتي يسعين إلى الحصول على نصيب وافر من التعليم الجامعي ويحلمن بالعمل في الوظائف الحكومية والشركات وما شابه. وقد بدأت الكثيرات منهن خلال العقدين الماضيين في العمل في المهن المختلفة وشاركن في التنمية المجتمعية.
كانت جامعة ديوبند مثارا للانتقاد على الدوام لفشلها في التوفيق بين الإسلام والقيم الحديثة، والمحاولات التي تبذل من جانب العلماء المسلمين الذين لا يدينون بالولاء لهذه الجامعة.
ردا على الجدل الذي أثارته الفتوى والإدانة الكبيرة التي قوبلت بها، قالت جامعة ديوبند إنها قدمت رأيا حول قضية وليس فتوى. وقال الشيخ عدنان منشي، المتحدث باسم جامعة دار العلوم ديوبند: «قدمنا رأينا في القضية بناء على الشريعة بأن على المرأة المسلمة أن تغطي بصورة محتشمة في المؤسسات الحكومية والخاصة».
وقال المفتي شاكيل العالم البارز في جامعة ديوبند الذي يشارك في الرد على الأسئلة وإصدار الفتاوى في الجامعة لـ«الشرق الأوسط»: «لقد لوى الإعلام عنق الفتوى، فلم نقل أن تمتنع المرأة عن العمل مع الرجال، بل بإمكانها العمل لكن بنوع من الكرامة في ظل الحجاب. ومن الخطأ تعميم الفتوى».
وحول ما إذا كانت الفتوى تنص على حرمة دخل المرأة العاملة، قال المفتي: «إن راتب المرأة سيكون حراما إذا كانت أوضاع العمل لا تتناسب مع الشريعة الإسلامية».
على الرغم من المعارضة، فلم يبد العلماء في الجامعة استعدادا للتراجع عن الفتوى. وقال المفتي شاكيل: «ليس هناك مجال للتراجع عن الفتوى، فلم تصدر عن هوى، بل صدرت استنادا إلى الشريعة الإسلامية».
وقطع حبيبور رحمان، (76 عاما)، الذي يوقع الفتاوى الإسلامية أو فتاوى جامعة ديوبند، على نفسه عهدا بتكليف الفريق المعاون له البحث في هوية ونية طالب الفتوى، وقال: «يساورني القلق حيال قدوم البعض طلبا للفتوى لاستغلالها في الهجوم على الإسلام».
ويشكل السائلون المجهولون على الإنترنت قلقا خاصا للشيخ فيقول: «ربما يجب علي تجنب تلقي الأسئلة ما لم يكن الدافع واضحا. فالإسلام ليس فيه بابوية أو فاتيكان».
يذكر أن الجامعة كانت أصدرت الكثير من الفتاوى في السابق بشأن قضية المرأة. وقبل فترة، أصدرت الجامعة فتوى قالت فيها إن لبس الجينز غير جائز، كما قالت أيضا إن على المرأة المسلمة عدم الاشتراك في تقديم عروض الأزياء. وقالت الجامعة في فتوى أخرى إنه لا يجوز للمرأة التعطر عند الخروج من المنزل. كما أفتت بعدم جواز قص شعر المرأة المسلمة على الطريقة الغربية. |