بقلم: أُبيّ حسن
صُدر في بيروت, مطلع هذا الربيع, العدد صفر من مجلة "كلمن" الفصليّة, هيئة تحريرها مجموعة من مثقفي لبنان, من قبيل: أحمد بيضون وحسام عيتاني وحازم صاغية وحسن داود وعباس بيضون ومنال خضر وسامر فرنجية.. الخ. وقد حرر العدد الذي بين أيدينا كلاً من حازم صاغية وحسن داود. والمجلة في مجملها تُذكرنا, من حيث رصانتها, بـ"الآداب" مطلع شبابها, وربما بمجلة "شعر" وسواها.
طبعاً, لن نقف عند مقال عباس بيضون الذي أتى بمثابة افتتاحية للمجلة, تحت عنوان: «العد الطائفي وسياسات الخسارة في لبنان: سرقات صيفية» لسبب بسيط جدّاً, ذلك كون الرجل يكتب غالباً ما لايُفهم, وبعبارة أكثر تهذيباً ورقة يعتقد البعض(ربما, مُحقاً) أنه "يتعمّد, أكثر الأحيان, الغموض في كتاباته من دون مسوّغ". بهذا المعنى من المُحال علينا إيجاز ونقل ما لم نفهمه إلى القرّاء الأكارم!
مما أتى في كلمة هيئة تحرير العدد صفر: «نكاد هنا في لبنان, كما في البلدان العربيّة الأخرى, نفتقد لمنابر حرّة. فسواء تعلّق الأمر بالصحف أو الإذاعات أو المحطّات التلفزيونيّة, بات يصعب الكلام عم وسيلة إعلاميّة واحدة متحرّرة ممّا يعتقده "داعموها" وممولوها..», ويختمان كلمتهما بعبارة لافتة ومعبّرة: «طبعاً, لن تكون مجلّتنا حاملة رسالة إيديولوجيّة ضيّقة تقع في أسرها. فهي, كما نرجو ونأمل, ستكون مفتوحة لكلّ من يساعد على تطويرها وتوسيع أفقها».
المقال الثاني «مذاهب المفكّرين السوريين في "الدولة العربية": تفحص نقدي» خطّه ياسين الحاج صالح, وستكون وقفتنا القادمة معه, إذ ما يعنينا هنا تسليط الضوء على مقال حازم صاغية المعنوّن بـ«أبراج الله وبرج دبي(تحقيق في الفيزيك والميتا فيزيك)» الذي استهلك ثلاثين صفحة من المجلة, وحقيقة هو بحث غني أكثر مما هو تحقيق كما أتى في عنوان صاحبه(ربما, تواضعاً), ويمكننا أن نطلق عليه دراسة معمّقة ومكثّفة ومختزلة, أو مقالة غاية في الرصانة تكاد تعلو ولا يعلى عليها, لكن قطعاً ليس تحقيقاً.
أهم ما في مقالة حازم صاغية, أن القارئ لها لا يشتمّ رائحة النفط بين سطورها, كتلك الروائح التي غالباً ما يشتمّها في مقالاته على صفحات "الحياة". ولعل هذه المقالة تُذكرنا بحازم صاغية أيام زمان (قبل أن تعيث الفورة النفطية فساداً في ضمائر غالبية المثقفين), وليس حازم صاغية الذي عادة ما يكون محطّ "إعجاب" الشخص الذي لا يعجبه شيء, نعني أسعد أبو خليل, وهذا ما يترجمه الأخير أغلب الأوقات في مقالاته التي تستحق فعلاً عناء القراءة في نشرة الأخبار اللبنانية, على نقيض ما يكتبه غالبية فتية إبراهيم الأمين.
قبل أن ننقل للقرّاء بعضاً من آراء حازم في دبي, تجدر الإشارة إلى أن عدداً من الكتّاب العرب والناطقين بالعربية تناولوها في بعض مقالاتهم, وقد يكون أوّل كاتب سوري كتب عنها هو فادي عزّام في مقال جميل له بعنوان: "دبي مدينة الوهم أو وهم المدينة"(24/1/2008- موقع الجمل), من ثمّ خصّها كاتب هذه السطور بمقال: "دبي.. أعجوبة أم مشهد عابر؟!" لم يستبعد فيه وقوع دبي بمشاكل على غرار ما هي فيه الآن وثمة تقاطعات كثيرة بين آرائه فيها وآراء صاغيّة, كان ذلك قبيل حدوث الأزمة المالية العالميّة(2008) بنحو الشهرين؛ وأذكر أن أسعد أبو خليل كتب "فقاعة دبي" حيث ينشر في نشرة الأخبار تاريخ 25 تشرين الأول 2008, وان لم تخني الذاكرة فعل الأمر ذاته الصديق نضال نعيسة, ومن الممكن أن يكون فعل آخرون ذلك. وربما كان الوحيد الذي امتدح دبي, بشيء من التملق المُبطن, بعد سلسلة المقالات تلك وأشاد بها و بـ"حكمة" حاكمها هو أدونيس(كإشادته –دون أدنى شعور بالخجل- بـ"ديمقراطية" حكّام إقليم كردستان العام الفائت, لا نعلّم شيئاً عن رأي أدونيس بخصوص قتل الصحفي الكردي الذي تمنى الاقتران بابنة رئيس بلاده!). وللأمانة, إن كل المقالات التي ذكرتها وما لم أذكره, يكاد لا يعادل شيئاً إزاء مقالة/دراسة/بحث... حازم التي نحن بصددها.. حقاً إنه كتبها بعيداً عن روائح النفط الكريهة, ورضا "سمو" الأمير.
من أهم مايرتأيه حازم بخصوص دبيّ أنّ لها "فضيلة تنطلق منها, وتشاركها فيها إمارات الخليج الأخرى: فهي مدينة- أمّة لا يراودها الطموح لأن تصبح دولة- أمّة في ظلّ استعدادات فقيرة لذلك. ذلك أنّ الدول- الأمم في الجوار المشرقيّ لا تزال تكابد التركة التي أثقلها بها الاستعمار حين وحّدها أكثر ممّا تطيقه مجتمعاتها ذات العناصر المتكارهة. ولأنّ دبيّ ليست مفتّتة من داخلها, أو لأنّها أصغر من أن تكون كذلك, لا نسمع أي صراخ تعويضيّ مرتفع النبرة عن «أمّة عربيّة» وأخرى «إسلاميّة»". وفي غير مكان من الصفحة 180 ذاتها يرى صاغية إنّه "وعلى رغم كلّ شيء, يبقى الإنفاق الدبيانيّ للثروة أفضل من إنفاقها كما عهدناه في النظم الثوريّة, لاسيّما منها النفطيّة الغنيّة, كليبيا والجزائر وعراق صدّام حسين.
وعندما يبحث صاغيّة عن دبيّ في برجها, تواجهه –وتواجهنا- حقائق جارحة منها: "إن شركة «سمسونغ» للهندسة والبناء التي بنت البرج كوريّة جنوبيّة. وقد عاد تصميمه إلى شركة «ودز باغوت» الهندسيّة الاستراليّة. فيما تمّ, في استراليا, تطوير نظام تنظيف البرج. وتتداعى أسماء شركات كـ«ـسكيدمور» و« ترنر كونستراكشن», وكذلك أشخاص يصعب العثور على مطلق صلة بينهم وبين دبيّ أو الخليج أو العرب ثقافة أو نسباً أو ديناً أو «أصالة», من مهندسه الأميركيّ المشهور بناطحاته أدريان سميث إلى جورجيو أرماني". ليصل حازم إلى نتيجة منطقيّة مفادها إن هذا "الحدث, إذاً, يندرج في تاريخ الفرجة كما في حركة انتقال المال والتقنيّة, لكن ليس في تاريخ الاقتصاد الذي يبني مجتمعات, ولا في تاريخ الثقافة والعقل العامّ والخبرات التي يكتسبها ثمّ يراكمها".
وأثناء تطرق الكاتب إلى جموع البشر الذين هم دون حقوق في هاتيك الإمارات, يذكر معلومات تنمّ عن مدى وحشيّة التعامل فيها, فبالاستناد إلى تحقيق لـ «بي بي سي» و«هيومن رايتش واتش» معاً, يجد أنه "كثيراً ما كابد العمّال الآسيويّون التأخّر في الدفع, وتعرّضت أجورهم للحسم أحياناً, كما صادر أرباب عملهم جوازات سفرهم, وهذه أشبه برياضة وطنيّة هناك. وأهمّ من ذلك أنّ ظروف العمل تسبّبت بأرقام مرتفعة من الموت والتعرّض للأذى. فالعمّال هناك يعملون 12 ساعة يوميّاً لستّة أيّام في الأسبوع في ظلّ حرارة لا تطاق. وبعد تحرّكات عماليّة متقطّعة بدأت في 2004 انفجر الأمر في 21 آذار 2006".
بالرغم ن مظاهر الليبرالية الموجودة في دبيّ مقارنة بجاريها السعودي والإيراني, لا يرى صاغيّة مسوغاً لحديث عن "تجربة حضارية" توصف الإمارة ببنائها. "فما من مؤسسات هناك منتخبة ديموقراطيّاً, والمواطنون لا يسعهم تغيير حكوماتهم أو تشكيل أحزاب. وبدورها, لم توقّع حكومة الإمارات على معظم الاتفاقات والمعاهدات الدوليّة في ما خصّ حقوق الإنسان وحقوق العمل والعمالة. أمّا الصحافة, وعلى رغم وجود مدينة دبيّ للإعلام, فتمارس رقابة ذاتيّة صارمة ودقيقة. وفي تشرين الثاني(أكتوبر) 2007 أوقفت دبيّ محطتي تلفزيون باكستانيّتين بطلب من حاكم باكستان يومئذ برويز مشرف".
نختم بفقرة مكثّفة في دلالاتها يسوقها حازم الذي يرى أنه "تحت وطأة الأزمة (المالية العالمية) غُيّر اسم البرج من «برج دبيّ» إلى «برج خليفة», تكريماً لرئيس دولة الإمارات وأمير أبو ظبي الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان, وكان هذا إقراراً بتفوّق أبو ظبي وبغلبة المال في مصادره على المال في تداوله. لكنّ الأمر, وهو ما تكشّف سريعاً, انطوى على كسر الأرقام القياسيّة لحقوق التسمية. فنحن, في دبيّ, أمام أفعل تفضيل آخر: إنّه أرفع سعر يُدفع مقابل اسم".
ختاماً: ما الذي يضير حازم صاغيّة أن يبتعد قليلاً عن آبار النفط وروائحها الكريهة, وعن الشماخ والعكال, كي يتحفنا دائماً بمثل هذه المقالات النفيسة؟ |