بقلم: حنا حنا المحامي
أصدرت المحكمة الادارية العليا حُكمًا يُلزم الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية بأن تعقد زواجًا ثانيًا لمطلق، وقبل أن نناقش الحكم لنعرف إذا كان قد أخطأ أو أصاب يتعين أن نعرف الخلفية التاريخية لقانون الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس.
هناك القانون المعروف بلائحة سنة 1938 والذي كان قد وضع بنوده المجلس الملي ثم أقره البرلمان ومن ثم أصبح له قوة القانون.
كانت لائحة 1938 تنص على الطلاق بالنسبة للأقباط الأرثوذكس في الحالات الآتية حسبما تسعفني الذاكرة:
1- الزنا.
2- الفرقة لمدة ثلاث سنوات.
3- الغيبة لمدة سبع سنوات.
4- المرض المزمن.
وإذا تم التطليق طبقًا للبنود والشروط الواردة في لائحة 1938 على النحو سالف اذكر, تقره الكنيسة ومن ثم يصبح للزوج أو الزوجة حق الزواج مرة ثانية.
حين اعتلى البابا شنوده الثالث الكرسي البابوي كان أول قرار أصدره هو "لا طلاق إلا لعلة الزنا"، بذلك أصبح هناك فجوه بين القانون الوضعي أو اللائحة وبين قرار البابا الذي يحرم الطلاق إلا لعلة الزنا.
ذلك أن القاضي ملزم بأن يحكم طبقًا للقانون أي اللائحة بينما البابا لا يجيز الطلاق إلا لعلة الزنا، ومن ثم من حصل على طلاق من المحكمة لغير علة الزنا لن يحصل على تصريح زواج ثان لأن التطليق الأول لا تعترف به الكنيسة.
وقبل أن نتعرض لتداعيات هذه الفجوة يتعين أن نبحث أولاً عمّا إذا كان قداسة البابا قد أخطأ أو أصاب حين أصدر قراره بتحريم التطليق إلا لعلة الزنا.
طبقًا للعقيدة المسيحية فإن "الميراث من الآباء أما الزوجة فمن الرب". تأسيسًا على ذلك يقول الكتاب المقدس "ما جمعه الله لا يفرقه إنسان" كما أنه بالزواج يصبح "الاثنان جسدًا واحدًا"، كذلك حكم الطلاق قد ورد بنص صريح وهو أنه "لا طلاق إلا لعلة الزنا" وتطبيقًا لهذه النصوص الصريحة التي لا تحتمل أي لبس أو تأويل فقد أصدر قداسة البابا قراره بألا طلاق إلا لعلة الزنا ولم يكن ذلك القرار إلا تطبيقًا لأحكام الكتاب المقدس طبقًا لما ذكره السيد المسيح. فمن ثم يكون قرار قداسة الباب صائبًا لأنه ينفذ أحكام الكتاب المقدس ومطابقًا للتشريع القدسي.
مع ذلك فهناك حقيقة أخرى وهى أن ثمة تشريع قائم فعلاً يتعارض مع هذا النص فما حكم هذا التعارض أو التضارب؟
أولاً قرار قداسة البابا يعود القهقرى إلى ما يقارب تسعة وثلاثين عامًا مضت. وحتى يتم سداد الثغرة القائمة بين اللائحة وقرار قداسته أو بمعنى آخر بين القانون الوضعي والقانون السماوي أو القدسي فقد تقدمت الطوائف المسيحية بمشروع قانون سمى "قانون الأحوال الشخصية الموحد للطوائف المسيحية"، وهذا المشروع ينص على أنه "لا طلاق إلا لعلة الزنا".
وطبعًا هذا القانون لا يمس الإسلام أو المسلمين من بعيد أو قريب. مع ذلك ظل هذا القانون حبيس الأدراج حتى تاريخه، ولا يمكن لأي إنسان مهما بلغ من نبوغ وذكاء يمكن أن يتكهن سبب حبس ذلك المشروع حتى تاريخه.
وإذا تساءلنا عن سبب ذلك التقاعس أو التراخي لا نجد سببًا منطقيًا على الإطلاق اللهم إلا روح التعصب الأعمى الذي سيطر على مصر ضد كل ما هو مسيحي منذ عصر السادات حتى الآن.
علمًا بأننا إذا عرّفنا القانون فهو "القواعد العامة المجردة التي تلزم المخاطبين بأحكامه" والمخاطبون بأحكامه هنا هم المسيحيون فقط.
إذًا لا يوجد إطلاقًا أي منطق أو سبب مشروع في تعطيل هذا القانون وحبسه في الأدراج. ومن ثم تظل الثغرة قائمة بين القانون الوضعي والقدسي أو بين التشريع والتطبيق ولا يوجد أي منطق يبرر ذلك إلا الجهل والتعصب الأعمى ضد كل ما هو مسيحي.
نعود إلى حكم المحكمة الإدارية العليا الذي يُلزم البابا بأن يزوج المطلق لغير علة الزنا ويعطيه تصريح ليتزوج للمرة الثانية زواجًا أرثوذوكسيًا في الكنيسة. من الطريف أن الحكم في حيثياته يذكر أن الأسرة هي نواة المجتمع ومن حق كل فرد تكوين أسرة!
ولا نحتاج إلى كبير عناء لنقول إن هذا الحكم قد جانبه الصواب, وذلك للأسباب الآتية:
الحكم يقول "..... وأنتم سكارى" ولم يذكر "لا تقربوا الصلاة". ذلك أن قلق السيد المستشار على الأسرة هو أساس وجوب الزواج الثاني. أما تقويض الأسرة في الزواج الأول والمسئولية التي تقع على عاتق والمسئولية التي تقع على المتسبب في هذا التقويض فلا تدخل في حساب السيد المستشار.
إن الحرص على الأسرة الكائنة فعلاً أولىَ بالرعاية من تكوين أسرة جديدة تبدأ وقد شابها عنصر التقويض. ذلك أن المتسبب في تقويض الأسرة الأولى سيكون سببًا في تقويض الأسرة الثانية.
إن الزواج المسيحي يا سيدي المستشار زواج قدسي كما سبق القول, ويكون الزوجان جسدًا واحدًا, ومن هنا أبيح الطلاق بسبب الزنا. ذلك أن الطرف الزاني ينفصل عن العلاقة الزوجية القائمة فلا يصبحان جسدًا واحدًا.
من هذا يتبين أن الأولىَ بالحماية والرعاية هو الزواج الأول الذي نشأ على أركان سليمة وعلاقة قدسية. ومقتضى هذه الحماية والرعاية أن يعرف كل مَن يقوّض أركان قدسية الزواج يحرم نفسه من مثل هذه الرابطة القدسية في المستقبل.
مع ذلك إذا أراد هذا الشخص الزواج مرة ثانية فيمكنه أن يغير مذهبه أو عقيدته ليفتح لنفسه أبوابًا لا تفتحها الأرثوذكسية، أما إذا أراد أن يقوض أركان الزواج وأركان عقيدته فيكون هو فقط المسئول عن فعله.
قد يقال إن هذا الشخص يتمسك بالأرثوذكسية لأنه متدين, والإجابة على ذلك تكون: أين كان هذا التدين حين تسبب في تقويض بيت الزوجية؟ إن حكم المحكمة الإدارية العليا لا مثيل له في العالم، إن الدول المتحضرة تفصل الدين عن الدولة.
مقتضى هذا أن من يتزوج يقوم بإبرام عقد الزواج في الجهات المدنية وله حق الطلاق في المحاكم المدنية أيضًا. أما إذا أراد زواجًا كنسيًا فهذا شأنه إذ يمكنه أن يعقد القران في الكنيسة. أما إذا أراد الطلاق فله أن يقيم دعوى مدنية يطلب فيها الحكم بالطلاق.
وإذا ما طلب المتخاصم من المحكمة أن تلزم الكنيسة ليعقد قرانًا ثانيًا, هنا تقف أمامه المحكمة بكل حزم وتقول له لا شأن لنا في المسائل الكنسية أو الدينية هذا شأنك أنت وكنيستك، وعلى المتخاصم أن يلجأ إلى المحاكم المدنية فيما يتعلق بالزواج أو التطليق. أما أن يتدخل قاض في مسألة دينيه فهذا أمر لن يحدث قانونًا أو دستوريًا أو عرفيًا بأي شكل من الأشكال أو بأي صورة من الصور، ولكن كل شيء ممكن في مصر أم العجب خاصة في هذا الزمان.
هناك مثال آخر: نفرض أن رجلاً مسلمًا متزوجًا من أربع نساء وقد أعجبته وسحرته امرأة خامسة، ولأنه إنسان عاطفي لا يريد أن يطلق إحداهن.... ذهب إلى شيخ الأزهر طالبًا التصريح له بالزواج زوجة خامسة تأسيسًا على أنه رجل مقتدر ماليًا وصحيًا وأنه سوف يعدل مع الخامسة كما يعدل مع الأربعة. هل يجوز لشيخ الأزهر أن يعطى مثل هذا الشخص التصريح بالزواج لامرأة خامسة؟ وهل يمكن للمحكمة أو تأمر شيخ الأزهر بالتصريح بالزواج الخامس؟ بالطبع لا. ذلك أن شيخ الأزهر بذلك يقوض أركان الإسلام.
وإذا كان الأمر كذلك, فكيف يجوز لقاضى مدني أن يصدر أمرًا لجهة كنسية بأن تزوج شخصًا على غير ما تقضى به شريعة هذه الكنيسة؟ أليس في ذلك خطأ فادح؟ لكن كل شيء جائز في مصر.
حين أصدرت محكمة القضاء الإداري هذا الحكم قرر قداسة البابا أنه لا يوجد قوه على الأرض تجبره على مخالفة أحكام الكتاب المقدس. ورغم هذا نجد أن ذات الحكم يصدر من المحكمة الإدارية العليا بصفتها محكمه استئنافية.
وطبعًا كان موقف قداسة الباب كما هو لم يتزعزع وكان من الأجدر بمحكمة الاستئناف ألا تقع في مثل هذا الحرج مرة أخرى.
نعم هناك عقائد وشرائع وقوانين تبيح مسألة الطلاق والزواج بلا حدود بل بلا قيود ولكنها جميعًا لا تعتدي على الشرائع السماوية أو الكنيسة والتي هي أجدىَ بالاحترام والاعتبار. حين كان لدينا محاكم لم يكن لمثل هذا الحكم أن يصدر إطلاقًا. |