بقلم: محمود كرم فبعد أن أدركَ الإنسان وجوده عبر التأسيس الفكري الواعي لفرديته الذاتية في صناعة مصيره وحياته وقراره وحريته ، كان الوعي الفلسفي الإنساني يتجه تصاعدياً وتركيزياً وتفاضلياً نحو حماية الجانب الأصيل فيه ، وهوَ أن الإنسان يجب أن يبقى دائماً حراً ، كإحدى أهم المرتكزات في الدفاع عن حقه الأصيل في الحياة ، مالكاً لوعيه وإرادته وتفكيره ، وصانعاً لقراره واختياره وحريته ، فمنذ زمن فلاسفة الأغريق ، ومروراً بفلاسفة عصر النهضة والتنوير والحداثة ، كان الوعي الفلسفي الإنساني في كل تحولاته وتعاقباته وتموجاته ومخاضاته واستنطاقاته ، يتقصّد دائماً استثارة النزعة الذاتية في الإنسان طريقاً لتجذير مفاهيم الحرية على مستوى الذات أولاً ، يستدعيها من حقيقة وجوده وإرادته الذاتية والعقلية ، كفضاء فكري ذاتي ينطلق منه نحو استيعاب حركته وتجربته وتفاعلاته في تلاحمهِ الثقافي والمعرفي مع حركة الحياة في تغيراتها وتقلباتها وتحولاتها ، وفي جوانبها وأبعادها وآفاقها وامتداداتها وتشعباتها .. ومن المعروف أن الإنسان عادةً ما يأتي إلى الحياة مثقلاً بثقافات ومعتقدات وايديولوجيات ومسلّمات محيطه وبيئته ومجتمعه ، حيث يجدها أمامه حاضرة بكل تناسلاتها وتعاقباتها وأثقالها وأكراهاتها وفروضاتها وواجباتها وتوجيهاتها ، وعليه أن يتوارث كل ذلك من دون تفكير أو نقد أو مساءلة أو اعتراض أو تحديق أو تشكيك أو الخروج منها وعليها ، فالإنسان وسط كل ذلك يغدو ضحية الموروثات والثقافات والحقائق المعلبة والإجابات الجاهزة والمعتقدات المتوارثة ، وفوق ذلك عليه أيضاً أن يكون محكوماً تجاهها بواجب الطاعة والتبعية والتقليد والتكليف ، سالبةً منه بحكم التوارث اليقيني التلقائي والإلزامي والسلطوي حقه الطبيعي الإنساني الحر في الحياة ، والتخلص من كل ذلك يحتاج أن يعرف الإنسان أن له حقاً أصيلاً في الحياة ، يتلخّص في أن يكون حراً أولاً وقبل كل شيء في قبول أو رفض ما يجده أمامه من ثقافات ومعتقدات وموروثات ، وليسَ أن ينحني أمامها خاضعاً مستسلماً ، فاقداً لاختياره وحريته وقراره ، تطبيقاً لثقافة الواجب عليه تجاهها ، كما تدعوا إليه وتعمل به المعتقدات الدينية والتراثية والتاريخية والثقافية والأيديولوجية .. فالأمر الجوهري الذي تبناه الفكر الإنساني والوعي الفلسفي فيه ، أن يعرف الإنسان أن له حقاً أصيلاً في الحياة ، يجعله يقف على حقيقة حريته التفكيرية والإرادية والعقلية ، ويمنحه ذلك استقلاليته الذاتية الكاملة ، أما ما يؤمن به من واجب تجاه حقه ذاك ، فليسَ سوى الأسلوب الواعي والفكري والأخلاقي والمسلكي الذي يرتب حقه ويحفظه ويحميه له من السلب أو القمع أو التعدي أو التشويه ، ولا يستطيع الإنسان أن يكون خلاقاً في الحياة ، صانعاً للإبداع والحرية والحب والجمال والفن والفكر ، مبتكراً لقيّمهِ وأخلاقهِ وأفكاره وحياته ، إلا حينما يؤمن أولاً بأن له حقاً إنسانياً أصيلاً في الحياة ، حق الذاتية والحرية والاختيار والقرار والتفكير والتساؤل والإبداع .. إن تمسّك الإنسان العميق والثابت والواعي والجمالي بحقوقه الإنسانية الطبيعية في الحياة ، هو الأساس الذي تقوم عليه إبداعاته وتخلقاته وإنجازاته ومنجزاته ، وهو المسعى الإبداعي الحر والمتجدد الذي يكتشف فيه أبعاد العالم من حوله ، ويكتشف فيه وجوده وذاتيته ووعيه وتغيراته وتجدداته وتفاعلاته ، متحرراً من هيمنة الوصايات المرجعية اليقينية والعاطفيات التراثية والحقائق المعلبة والفنتازيا والخيالات الدينية والأيديولوجية ، ولذلك كان تركيز الفيلسوف الألماني فويرباخ على أن يتخلّص الإنسان من الخيالات الدينية لكي يكتشف أبعاد العالم الحقيقي ، وما تأكيد الوعي الفلسفي الإنساني على حق الإنسان أولاً ، إلا لكي يضعه في سياق المسار الإبداعي الإنساني الحر والخلاق ، ويحرره من اكراهات وأثقال وفروضات الثقافات الاستلابية والتوجيهية والتسلطية والتلقينية التي تطلبُ منه قبل كل شيء وبعد كل واجب ما هو الواجب تباعاً عليه أيضاً وأيضاً تجاهها ، محكوماً بطاعتها وملتزماً بالتقوقع والتقزم في تعاليمها وحاملاً لمنقولاتها ونصوصها ومدافعاً عن حمولاتها الأيديولوجية والمرجعية التراثية التكليفية الجامدة والمنغلقة والتراجعية والمنكفئة ، إنها في النهاية تجرّد الإنسان من قيمته الذاتية الإبداعية الحرة ، تقتلعُ منه روح الإيجابية والجرأة والاقتحام والتحديق نحو الحياة ( مَن لا يملك علماً ولا فناً ، ليسَ أمامه إلا أن يكون من المتدينين ) كما يقول الشاعر الألماني غوته .. ثقافة الواجب والطاعة والتكليف والتقليد ، هي ثقافات قمعية استبدادية في تكويناتها ومنطوقاتها الأدبية والنصية والتفسيرية ، تسلبُ حق الإنسان الطبيعي الأصيل في ثقافة النقد والسؤال والتفكير والتفكيك والرفض ، إنها ثقافات تضع الإنسان تحت قانون الخدَر الثقافي الاستبدادي ، تزرعُ فيه ثقافة الخوف من المجهول ، سبيلاً لإيمانهِ المطلق بمنطق الغيبيات والماروائيات ، وفي اتجاه موازٍ تدغدغُ فيه حاجته الماسة إلى طاعتها وتطبيق فروضاتها وتعاليمها ، لكي ينال شرف خدمتها وإرضائها ، ولكي تجنبه المخاطر والشرور والويلات ، وتجلبَ له الخير والنفع والفائدة والراحة والسعادة الأبدية ، فهذه الثقافات تعمل على ادراج الإنسان في منظومة ثقافية استبدادية تخديرية وخاملة ، يجب أن يعمل فيها بطريقة ميكانيكية تلقائية وانفعالية لتلقّي واجباته منها تجاهها ، وتُفهمهُ تالياً أن طبيعة الإنسان الحتمية أن يندرج مذعناً في هذين المسارين .. ولذلك كان الوعي الفلسفي الإنساني يعملُ في كل مراحله التنويرية على استثارة ثقافة السؤال في الإنسان ، فتحاً فكرياً ملهماً طافحاً بالدهشة والتأمل والإبداع ، ومفعماً بالاقتحام والجرأة والمجازفة ، يعرفُ من خلالهِ الفرد قيمة ذاته الحرة والمستقلة في استيلاد منابع القوة والإرادة والحرية في أعماقه ، متوقداً بالوهج المعرفي سبيلاً واعياً للتأكيد على حقه الإنساني في امتلاك حريته وقراره وحياته ، فحينما يملك الإنسان حقه في كل ذلك ، رافضاً ثقافة الواجب القمعية ، يملك تفكيره الحر في التحاور العقلاني والواقعي مع الحياة في حركتها واحتمالاتها وتبدلاتها وتغيراتها وتحولاتها واصطداماتها وفي سكونها ومساحاتها وألوانها ، وتغدو الحياة أمامه مساحةً تتمدد في أكثر من أفق وتتشعبُ في أكثر من مدى ، تاركةً له جانب البحث والفكر والتفكير والقلق والمواجهة والتقليب فيها ، متجلياً هذا الإنسان بحقهِ في كينونته الذاتية المعرفية والإرادية ، والتي تعني في تمثلاتها التعبيرية والتجسيدية حضوره النقدي والتفكيري الشهي والملهم والجريء على مسرح الحياة ، فمن غير هذا الحضور الفعلي المسكون بهواجس التفكير والنقد والشك والتغيير والمحاولة والتجريب ، يستسلم الإنسان طوعاً وتلقائياً لثقافة الواجب والطاعة والقبول والتكليف .. ونستطيع أن نفهم من ذلك أن فكر الإنسان إنما يبرقُ خلاقاً ومتجدداً وخلاباً من إرادته الحرة ، ومَن يملك إرادته التفكيرية ، يملك تبعاً لذلك فكره الفاره والمتنوع والخلاق والمفتوح ، كما كان يدعو إلى ذلك فيلسوف العقل ديكارت ، فالإنسان حينما يُبدعُ تجربته وإرادته وحريته تأسيساً على حقه في التفكير والخلق ، يبدع فكره وأسلوبه وطريقته ، وقدرة الإنسان إنما تتجلى في قدرتهِ على خلق تفكيره وأفكاره خروجاً منفتحاً حراً على أثقاله وثقافاته الدينية والبيئية الموروثة ، والإنسان المسكون بطاقة الابتكار والإبداع يرتفع ذاتياً إلى مستويات حريته في التعايش الجمالي والحميمي أيضاً مع أفكاره وطريقته وإبداعاته ، وفي المقابل أليسَ تهديم كل ذلك في الإنسان ، كما تسعى إليه ثقافة الواجب الاستلابية وثقافة التكليف والطاعة ، إنما هو تهديم استقصادي لذات الإنسان الحرة والمفكرة والمستقلة والمتساءلة والمبدعة ، إنه تدمير شنيع للإنسان الذي يسعى دائماً أن يكون نفسه ، أن يكون حريته وتجربته وإبداعه وفكره وتفكيره وابتكاره ، فثقافة الواجب الاستبدادية التسلطية اليقينية والتقديسية ، هي ثقافة تهديم واستلاب وفرض وتخريب وخوف وخنوع وتسليم وانهزام وتراجع وعجز وتردد وانغلاق وتقوقع وانكفاء وتأثيم ، بينما ثقافة الذات الحرة المتمسكة بحقها الإنساني الأصيل في الحياة ، هي ثقافة الإرادة والتصميم والاقتحام والجرأة والتمرد والشك والتفكير والبحث والنقد والسؤال والتحديق والمجازفة والتحدي والرفض والاحتجاج والرغبة والشغف والاشتهاء والاطمئنان والحب والجمال والحرية والتمنّي والإبداع والخلق .. كاتب كويتي |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ٢ صوت | عدد التعليقات: ٠ تعليق |