سُئل الداعية المشهور الشيخ خالد الجندى عن محاولات بعض علماء الدين ورجاله من المسلمين والمسيحيين استقطاب بعض أتباع الدين الآخر وتبشيرهم، فأجاب قائلاً: «ولِمَ لا.. إنها مسألة أشبه ما تكون بالـ(ماركيتنج)، أنت لديك بضاعة، وأنا لدىّ بضاعة، فلماذا لا يعرض كل منا بضاعته؟».
يجب ألا يندهش أحد من إجابة الشيخ، فالرجل دأب على استخدام بعض كلمات اللغة الإنجليزية فى خطابه للتعبير عن «طبيعة ثقافته ومدى اتساعها»، كما أن عباراته لا تخلو فى كثير من الأحيان من طرافة ومباغتة، بما لا ينال طبعاً من كثافتها وقدرتها على التعبير وإضفاء الانطباع فى آن، فضلاً عن محاولته الدائمة اتخاذ منحى براجماتى، باستخدامه «لغة السوق»، سعياً إلى مزيد من التجسيد لـ«بضاعته الروحانية» (...).
لكن ما يبعث على الدهشة حقاً أن الأب ماتياس نصر، كاهن كنيسة السيدة العذراء فى منطقة عزبة النخل، الذى عُرف بأنه أحد من خرقوا العُرف القائل بعدم إعلان تعميد المسلمين المتنصرين اتقاءً للفتنة، سُئل السؤال نفسه، فأجاب: «ولِمَ لا، إنه نوع من المنافسة أو السجال الفكرى.. كل واحد بيقدم بضاعته».
لم يكن الشيخ قد سمع إجابة الكاهن، كما لم يحدث العكس، فقد أجابا عن السؤال نفسه كل بمنأى عن الآخر، ولا يبدو أن الشيخ يتفق فى الكثير مع الكاهن، بل ربما يجد كل منهما أن الآخر يقع فى الجهة المقابلة، أو يسير فى طريق موازٍ، حيث لا أمل فى التقاء أبداً، لكن مع هذا، فقد تصادف أن اتفقا فى الإجابة نفسها عن السؤال نفسه، والأنكى أنهما استخدما اللفظ ذاته: «البضاعة».
كيف تحول الدين إلى بضاعة؟ وكيف وجدت تلك البضاعة من يشتريها، ويبيعها، ويجنى الأرباح؟ وما الذى يمكن أن ندفعه من أثمان من وحدتنا الوطنية وسِلْمنا الأهلى وتماسكنا الاجتماعى وأمننا القومى جراء ذلك التحول؟ تلك هى الأسئلة التى تتصدر أحد أخطر الملفات المصرية.. ملف الفتنة الطائفية.
فى عام ٢٠٠٤، قيل إن سيدة قبطية تدعى وفاء قسطنطين، فرت مع زميل عمل مسلم، تاركة وراءها زوجاً من دينها نفسه بالطبع، وهى حادثة ربما تتكرر من حين لآخر فى الجانبين، لكن الأمر اتخذ منحى دراماتيكياً هذه المرة.. فقد كان الزوج كاهناً فى إحدى الكنائس.
شعر الأقباط أن الأمر، فى تلك المرة، إنما استهدف الفكرة المسيحية ذاتها، لا مجرد فرد مسيحى، وأن الرمزية التى ينطوى عليها تشكل أخطاراً أفدح من أى قدرة على التحمل، لذا فقد دافعوا بالقول إن السيدة «أجبرت على الفرار وتغيير دينها»، فيما رد مسلمون: «بل فرت، وأسلمت بمحض إرادتها». لكن الكنيسة القبطية وملايين من أبنائها شعروا بطعنة شديدة العمق والإيلام، فخرجت المظاهرات العارمة، وأقيمت الاحتجاجات الصارخة، الأمر الذى دفع بالدولة إلى إعادة السيدة إلى الكنيسة، حيث بقيت، ولم تُشاهد ثانية.
يبدو أن تلك الحادثة فتحت الباب واسعاً أمام المبشرين من المسيحيين لتكثيف نشاطهم، والعمل بقدر أكبر من الجرأة والعلانية، كما أعطت الذرائع لبعض المتنصرين لإعلان تنصرهم، بل طلب تغيير حالتهم الدينية فى الوثائق الرسمية.
يظهر هذا المعنى فى إجابات الأب ماتياس عن أسئلة الزميل عمر عبدالرازق، فى فيلمه الوثائقى المميز «متنصرون»، الذى عُرض على «بى. بى. سى» العربية، الأسبوع الفائت، واستضاف خلاله الشيخ خالد الجندى ومتنصرين من مصر والمغرب، كما زار محطة فضائية تبشيرية، تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها.
وقد دق هذا الوثائقى أجراس الخطر بوضوح، وأشار إلى أن الأمور باتت أكثر تفاقماً مما يظهر على السطح، خصوصاً عندما سُئل الأب ماتياس مباشرة عما إذا كان الانطلاق فى عمليات التنصير قد يؤدى إلى اشتعال «حرب تبشير» بين الجانبين، فأجاب: «الحرب موجودة من سنوات».
ويظهر الفيلم الوثائقى متنصرين يعيشون فى مصر، علناً أو فى الخفاء، منبوذين أو مطاردين، كما يظهر آخرين يعيشون فى الولايات المتحدة، وينخرطون فى أنشطة اتصال عبر «الإنترنت» أو يعملون فى فضائيات تبشيرية، حيث يمارس بعضهم أحط الممارسات العنصرية والثقافية، التى تسىء، ليس للمسلمين والإسلام فقط، ولكن أيضاً للمسيحيين والمسيحية، وجميع أتباع الديانات، وأصحاب العقول الرشيدة والحس الإنسانى المستقيم.
ويشير الفيلم بوضوح إلى «صناعة تبشير» واسعة، يقف وراءها ممولون بموارد ضخمة تأتى من خلف البحار، وتستهدف ظاهرياً استقطاب مسلمين إلى المسيحية، فيما ترمى باطنياً إلى ترويج الفتنة وإشعال الضغائن والأحقاد.
وإلى أن تحل الدولة المصرية إشكالها الدستورى المتمثل فى الاشتباك بين المادة الثانية التى تقول إن «الإسلام دين الدولة، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع»، والمادة ٤٦ التى تقول: «تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية»، وإلى أن توقف ممارساتها التمييزية ضد غير المسلمين، فستظل الذرائع متوافرة لردود فعل مسيئة وشائنة.
أما هؤلاء الذين يتلاعبون بالضمائر والأفئدة، ويؤججون نار الفتنة مدعين التقوى والورع، فقد قال فيهم القرآن الكريم: «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»، كما قال فيهم الإنجيل: «اِحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَاب الْحُمْلاَنِ، وَلكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِل ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ».
نقلا عن المصري اليوم |