بقلم: د. أحمد الخميسي
في 14 مايو الحالي عقد بنيويورك مؤتمر " مستقبل الديمقراطية في مصر" شارك فيه عدد من المفكرين والسياسيين من بينهم جورج اسحق الذي شارك من قبل في " المؤتمر الرابع لمجلس الديمقراطية العالمي " بتركيا في يونيو 2006 جنبا إلي جنب مع وفد إسرائيلي قيل إنه التقي بأعضائه وسارعت حركة كفاية ببيان رسمي صدر في حينه للتنصل من مسئوليتها عن ذلك كما فعلت مؤخرا بشأن مؤتمر نيويورك . وقد أدت كلمة اسحق في نيويورك لاتهامه مع زملائه ب " الاستقواء بالخارج " خاصة قوله " أصل هم لامؤاخذة أسيادهم في البيت الأبيض ، ولا يسمعوا لأحد إلا إذا جاء من البيت الأبيض " ، وهذه العبارة توضح تماما فكرة اسحق أنه لايمكن إنجاز أي تقدم بدون الاستعانة بالبيت الأبيض ، ويتسق ذلك مع قوله لاحقا " أنتم تعيشون في بلد حر " يقصد أمريكا ! هذا دون أن ترد لذاكرته صور معتقلات جوانتانمو وأبي غريب ومجازر بحر البقر وحصار غزة وتدمير العراق وغير ذلك من مواقف تألقت فيها الحرية الأمريكية ! بل ودون أن يرد لذهنه القمع الأمريكي للمظاهرات المعارضة للحروب وغيرها حتى داخل أمريكا. هذا هو " البلد الحر " إذن ! .
والاستقواء بالخارج أمر يعود بجذوره إلي تاريخ الصدام بين الاستعمار ومصر، منذ أن أعلن الجنرال يعقوب مع هبوط الحملة الفرنسية لمصر أنه نصير للاحتلال الفرنسي ، لأن الفرنسيين هم " القوة " القادرة على التغيير، فتزعم فيلقا تابعا للحملة وحين حمل الفرنسيون عصاهم ورحلوا غادر معهم على سفنهم وتوفي في عرض البحر دون أرض أو وطن . حينذاك ، والآن ، كان بعض المثقفين يعتبر أن الشعب المصري لا يمثل قوة ، لأنه لكي يصبح ذلك الشعب قوة منظمة ومؤثرة فلابد من عمل دؤوب وصبور بين صفوفه وهو ما لايطيقه المثقفون ، بينما الأسهل أن يرسل المثقفون أنظارهم إلي الخارج ، ليكرروا نماذج " كرزاي أفغانستان " ، و" مالكي بغداد " وغيرهما ، ويعرضوا خدماتهم كوكلاء جدد للاستعمار جدد بدلا من الوكلاء القدامي الذين انتهت صلاحيتهم . وفي مصر ، يفضل البعض ألا يرهق نفسه بعلاقة مع الاحتجاجات الشعبية التي بلغ عددها العام الماضي 478 احتجاجا عماليا ، و123 إضرابا ، و79 مظاهرة ، و65 وقفة احتجاجية ، وهو العام الذي شهد انتحار 60 عاملا من شدة البؤس. لقد اختارت النخبة برادعيها القادم من واشنطن ، واختار البرادعي نخبته بكتابها وأساتذتها من عشاق ديمقراطية البيت الأبيض ، أما الناس فيمضون بعيدا عن كل ذلك يعبدون طريقهم الخاص .
الشيء الجوهري والمؤسف الذي يعكسه " الاستقواء بالخارج " هو أنه تعبير عن ضعف العلاقة مع الحركات الجماهيرية في الداخل ، وتعبير عن الارتكاز على فكرة مغلوطة قوامها أن " الإصلاح الدستوري " هو أساس كل شيء وليس الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي ، دون أن يرى أحد أن " الدستور " كان على مدى التاريخ خرقة بدون قوة شعبية تحميه ، وأن المهمة الأساسية هي بلورة وعي تلك القوى الشعبية وتنظيمها . وحتى الديمقراطية والإصلاح الدستوري فإنهما يقتصران عند البعض على نزاهة الانتخابات، دون أن يمتد مفهوم الديمقراطية لحق التنظيم والإضراب وغيرهما من الحقوق التي تمس القطاعات الأوسع .
الاستقواء بالخارج ، لم يعد قاصرا على السياسة ، بل امتد إلي الأدب ، حين أصبحت أحلام بعض الكتاب أن يجدوا أعمالهم مترجمة إلي لغات أجنبية ، بغض النظر إن كان هناك من يقرأها في مصر أو في الخارج ، ولا يتواني بعضهم عن التشرف بحضور حفلات السفير الأمريكي ، والتبرك به ، وبالجوائز المشبوهة ، وبالمؤتمرات التي نصفها أدب ونصفها تطبيع ، ولايتواني البعض عن كتابة أعمال " أدبية " خصيصا مقاس الموضوعات الأمريكية المفضلة ليحظى برضاء الخارج، وفي مثل هذه الظروف يصبح ما قاله جورج اسحق ، وما سيقوله ، لاشيء ، سوى مجرد تعبير عن فيلق يضم موسيقيين وفنانين تشكيليين وأدباء وصحفيين ، لكن البحر سيطوى كل هذا حين ترجع الحملة على سفنها إلي بلادها . ولن يصح سوى الصحيح .
|