بقلم : لطيف شاكر
عظمت الحضارة الفرعونية دور المرأة وجعلتها بطلة للأساطير .... و أسند لها الفراعنة مهام اله العدل " ماعت " وكانت " ايزيس " هى آلهة الجمال في حضارة الفراعنة .... وقد شاركت المرأة فى عهد الفراعنة فى العديد من المواقع العسكرية وحملت نقوش الحضارة الفرعونية صور عديدة لحواء فى الحياة العامة والمنزل والعمل والحروب العسكرية....
وفي المقابل والنقيض انتشرت ظاهرة(عروس النيل ) التي تقضي بالقاء فتاة شابة مزينة بالحلي في النيل ليفيض بالمياه . فكيف لحضارة من اعظم الحضارات تقوم على مثل هذه الضحايا فحضارتنا لم تصل الى هذا الحد.
نعم كان الزفاف إلى النيل غاية تتمناها كل فتاة في مصر تعبيرا عن قداسة هذا النهر العظيم الذي تصوره المصري القديم إنسانا وجعلوه الها سموه حابي.
وفى هذا السياق ترددت بين الناس قصة تقول إن المصريين القدماء كانوا يزينون فى كل عام فتاة عذراء يختارونها من بين أجمل بنات مصر ويلقونها فى النيل حتى لا ينقطع فيضانه، وتؤكد الحكاية أن المصريين لم يتوقفوا عن هذه العادة إلا عندما دخل المسلمون مصر فى القرن السابع الميلادى فأبطلوا تقديم هذا القربان البشرى للنهر.
وقصة ابن عبدالحكم عن عروس النيل قصة من نسج الخيال، ومع ذلك فقد لاقت رواجا واسعا بين المؤرخين القدماء، كما أصبحت أسطورة عروس النيل من الأساطير التى يستلهمها الأدباء والشعراء والفنانون فى أعمالهم.
والقصة غير معقولة لأن أهل مصر عندما دخلها عمرو كانوا يعتنقون المسيحية، وهى تحرم بالطبع القربان البشرى ككل الديانات السماوية، ومن هنا فمن غير المتصور أن يُقْدم المصريون فى القرن السابع الميلادى على إلقاء فتاة فى النهر وتقديمها كقربان حتى يفيض، بعد مرور سبعة قرون على بداية انتقالهم إلى المسيحية، وبعد مرور أكثر من مائة عام على إغلاق آخر معابد الديانة المصرية القديمة فى بلاد النوبة. لكن هل معنى هذا أن المصريين القدماء قبل اعتناقهم المسيحية اعتادوا تقديم عروس للنيل فى كل عام؟
فى الحقيقة لا توجد أدلة أثرية أو تاريخية تؤكد قصة عروس النيل فى مصر القديمة، كما أن المؤرخ الأغريقى هيردوت الذى زار مصر فى القرن الخامس قبل الميلاد لم يشر إلى مثل هذه الأسطورة، رغم أنه تحدث كثيرا عن النيل وفيضانه.
والمعروف تاريخيا، أن الحضارة المصرية القديمة لم تعرف فى مرحلتها التاريخية تقديم القرابين البشرية، كان المصريون القدماء يلقون بالهدايا فى النيل أثناء احتفالهم بوفائه، وكانت هذه الهدايا تضم ثمار الفاكهة والتمائم والتماثيل ربما يكون هذا مصدرا للأسطورة.
لكن رواية ابن عبدالحكم الأسطورية عن إلقاء فتاة حية فى النيل ليس لها أساس من المنطق ولا سند من التاريخ. وظلت حكاية إهداء عروس للنيل كل عام في عيد وفاء النيل راسخة في الأذهان، واستمرت عادة إلقاء دمية خشبية على شكل فتاه آدمية بدلا من الفتاة الآدمية التي كانت تزف إلى النيل، جزءا من مراسم الاحتفال حتى وقت قريب ومازال كتاب محدثون وشعراء يرددون الحكاية، حتى السينما أخذت من حكاية عروس النيل موضوعا لأفلامها.
ولقد بالغ الناس في تجسيد الأسطورة فقالوا إن الفتاه تظهر مرة أخرى وقد تحول نصفها الأسفل إلى سمكة لأن النهر لا يلتهم عرائسه بل يجعلها تعيش في أعماقه كالأسماك.
ومنذ كشف شامبليون أسرار اللغة المصرية القديمة بعد اكتشاف ضابط الحملة الفرنسية بوشارد لحجر رشيد أثناء الحملة الفرنسية على مصر، بدأ الباحثون دراسة جادة للتاريخ المصري القديم، ومن هؤلاء الباحث الفرنسي بول لانجيه الذي تفرغ لدراسة حكاية عروس النيل.
إن إلقاء عروس حيةفي النيل ليس إلا خرافة فجميع من أرخوا لمصر قبل ابن عبدالحكم مثل هيكاه وهيرودوت وتيودور الصقلي وبلوتراك وكليمان السكندري الذين كتبوا عن الحياة والعادات الفرعونية والغرائب والتقاليد في مصر القديمة لم يتناولوا من قريب أو بعيد حكاية عروس النيل.
كما أن عبدالحكم كتب هذه الحكاية بعد فتح عمر بن العاص لمصر بمائتين وثلاثين عاما ولم يكن من معاصريها وربما رويت له. وواضح من متن الرواية أن النيل استمر ثلاثة شهور لم يجر فيه كثير ولا قليل ولو حدث هذا لهلك كل من في مصر كما أنه من المستحيل علميا ارتفاع النيل ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة.
ويؤكد الباحث مختار السويفي أن الحضارة المصرية حضارة راقية لم تعرف على مر العصور الضحايا البشرية لأي إله أو معبود مهما علا شأنه. ويقول السويفي إذا كان للنيل عروس فهي أرض مصر التي يدخل عليها النيل في موسم الفيضان كما يدخل الرجل على عروس في ليلة زفافها.
كما أن نقوش المعابد المصرية والبرديات التي عددت مظاهر الحياة والتقاليد والعبادات لم تذكر حكاية عروس النيل، ولو كانت هذه حكاية حقيقية لما أغفلتها النقوش.
وتذكر الدكتورة نعمات أحمد فؤاد إحدى عاشقات الحضارة المصرية في كتابها "القاهرة في حياتي" أن حكاية عروس النيل ليس لها أساس تاريخي، ولم ترد غير القصة التي ذكرها بلوتراك اليوناني والتي تقول إن ايجيبتوس ملك مصر أراد اتقاء كوارث نزلت بالبلاد فأشار إليه الكهنة بإلقاء ابنته في النيل ففعل ثم ألم به ندم شديد فألقى بنفسه في النيل فهلك مثل ما هلكت.
ويقول عباس محمود العقاد في كتابه "عبقرية عمر"، "إن رواية عروس النيل على علاتها قابلة للشك في غير موضع فيها عند مضاهاتها على التاريخ، وقد يكون الواقع منها دون ما رواه الرواة بكثير.
ورغم ذلك عاشت الأسطورة في وجدان مصر وتناولها الأدباء والشعراء والفنانون والسينما ومازالت كتب كثيرة ترددها كواقع,
لكن الحضارة المصرية بأصالتها وعمقها تؤكد كل يوم وعيها وتحضرها.
لقد قدست مصر النيل العظيم شريان الحب والنماء نبع الخير والخضرة والازدهار، واحتفت به وظلت تناجيه في أناشيدها المقدسة، وصاغت الملاحم في عشقه، ولكنها أيضا قدست الإنسانية والإنسان ، ولم تضح بروح إنسان من أجل فيض النهر الخالد. |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|