بقلم: عصام نسيم
لقد وقفت الخلائق السمائية مندهشة لما يحدث على الأرض في هذه المحاكمة العجيبة -أعجب محاكمة عرفها التاريخ-.
فكيف يحدث هذا الأمر؟!!
أديّان الأرض كلها يقف مُدان أمام جماعة من الأشرار؟!!
الذي ستقف أمامه البشريه كلها يوم الدين ليحاسب كل شخص على أعماله ويصرخ الأشرار قائلين للجبال والآكام غطينا من وجه الجالس على العرش.
فهل يقف هكذا كمُدان يُحاكم أمام هذه المحكمة الباطلة المزيفة الشكلية؟
كيف يا رب احتملت هذا الأمر كيف؟!!
كيف يقف -الملك- ملك الملوك ورب الأرباب ليُحاكم؟!!!
فقد عمل الشيطان بكل طاقته في هذه الليلة مع أعوانه ليدبر ويخطط لهذه المحاكمة الباطلة حتي يخرج منها الحكم بأنه -مستوجب الموت-، ولكن لم يكونوا يعلمون بأنهم بهذا ينفذون خطة الله الخلاصية للبشر ليتم فداء البشرية من موت الخطية بموت المسيح على الصليب.
جاءوا في الليل ليقبضوا عليه.. جاءوا في الظلام لأنهم أبناء الظلمة, فهكذا دائماً عمل الشر والأشرار دائماً في الظلام، فالباطل والظلم والشر وقته الظلام لأن النور يكشف أعمالهم الشريرة، وكما قال رب المجد لهم (إنها ساعتكم وسلطان الظلمة).
وهكذا يتم القبض على المخلص ليقف أمامهم مُدان ليُحاكم أمام هذه المحكمة الباطلة حيث كانت في الليل..
ليقف النور يُحاكم أمام الظالمين، وفي الظلام ويقف العدل يُحاكم أمام الظلم، ويقف الحق يُحاكم أمام الباطل.
لم يقف رب المجد أمام محكمة واحدة ليُحاكم، ولكنه وقف أمام خمسة محاكمات كلها كان رائحة البطلان والزيف والشهود الزور تنتشر بها، فقد سبق إعداد الحكم قبل المحكمة وكان كل عمل هؤلاء الأشرار هو تنفيذ هذا الحكم.
عُرض السيد المسيح أمام خمس محاكم.. الأولى في بيت حنان (حما رئيس الكهنة قيافا في تلك السنة) (يو18:12)، والثانية أمام المجمع اليهودي، والثالثة في دار الولاية أمام بيلاطس البنطي، والرابعة أمام هيرودس، والخامسة أمام بيلاطس مرة أخرى.
المحاكمة الأولي في بيت رئيس الكهنة:
وكان رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع كله يطلبون شهادة زور على يسوع لكي يقتلوه، فلم يجدوا، ومع أنه جاء شهود زور كثيرون لم يجدوا، ولكن أخيراً تقدم شاهدا زور (مت 59:26).
وعندما فشلوا أن يجدوا علة فيه سأله رئيس الكهنة قائلاً: أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله، فقال له يسوع أنت قلت، وأيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء.. فمزّق رئيس الكهنة حينئذ ثيابه قائلاً قد جدّف، ما حاجتنا بعد إلى شهود، ها قد سمعتم تجديفه. ماذا ترون، فأجابوا وقالوا أنه مستوجب الموت. حينئذ بصقوا في وجهه ولكموه، وآخرون لطموه قائلين تنبأ لنا أيها المسيح من ضربك. (مت 63:26)
وهكذا بعدما اعترف السيد المسيح الإعتراف الحسن بأنه المسيح ابن الله المخلص الذي أتى ليخلص العالم، بل ويخبره بأن ابن الإنسان الذي يقف أمامه اليوم ليُحاكم كمذنب سيأتي مرة أخرى على سحاب السماء في مجده ليدين العالم، وعندما سمع رئيس الكهنة هذا الكلام مزق ثيابه قائلاً قد جدّف، ورغم أن المظهر الخارجي له هو انزعاجه من كلام السيد المسيح ولكنه كان فرحاً جداً لأنه باعتراف السيد المسيح هذا نال هذا الشرير ما اعتقد أنه تجديف وتهمة يعاقب عليها، وهكذا يكتسب الشريعة للحكم عليه بالموت، ولم يكن يدري أنه بتمزيقه ثيابه قد مزق عنه وعن أمته الكهنوت لينزع ملكوت الله من هذه الأمة أيضاً وليعطي لأمة تصنع أثماره، وهكذا تحقق مقصده الشرير ووجد الزريعة التي بها يحكم عليه بأنه مستوجب الموت.. لتأتي المحاكمات التالية تأكيداً وتنفيذاً لهذا الحكم,
والعجيب حقاً أننا نجد أن جماعة الأشرار هذه بدأت تبصق في وجه المخلص وتلكمه وتلطمه.. حقاً إننا نقف أمام هذه العبارة لنصمت ونتأمل كيف تحمل الرب يسوع كل هذه الآلام والإهانة والذل من أجل إتمام الخلاص لنا!!!
المحاكمة الثانية أمام مجمع اليهود:
بعد أن استجوب حنان السيد المسيح وأصدر حكمه بالموت، ولأنه لم يكن رئيس الكهنة وبالتالي محاكمته للمسيح باطلة، أرسله موثقاً إلى قيافا رئيس الكهنة (يو 24:18) ليتم استجواب المسيح أمام المجمع اليهودي برئاسة رئيس الكهنة وقد كان هذا في بدء الصباح ليوم الجمعة..
ولما كان النهار اجتمعت مشيخة الشعب رؤساء الكهنة والكتبة وأصعدوه إلى مجمعهم قائلين: إن كنت أنت المسيح فقل لنا، فقال لهم إن قلت لكم لا تصدقون، وإن سألت لا تجيبونني ولا تطلقونني. منذ الآن يكون ابن الإنسان جالساً عن يمين قوّة الله. فقال الجميع أفأنت ابن الله، فقال لهم أنتم تقولون إني أنا هو. فقالوا ما حاجتنا بعد إلى شهادة لأننا نحن سمعنا من فمه. (لو 66:22)
وهكذا أصدر المجمع اليهودي تأكيدهم للحكم الذي أصدره من قبل قيافا وحنان معاً، لم يبق إلا أن يتم تنفيذ هذا الحكم من السلطة الرومانية الحاكمة في هذا الوقت، حيث أن اليهود لم يكن بسلطتهم تنفيذ حكم الموت على إنسان، ليؤخذ المسيح بعدها إلى بيلاطس البنطي.
المحاكمة الثالثة أمام بيلاطس البنطي:
ثم يقف السيد المسيح مرة ثالثة وهو مضروب ومهان ومجروح من ضرب واستهزاء الجنود، يقف ليُحاكم أمام بيلاطس ليستجوبه قائلاً له:
أنت ملك اليهود؟ أجابه يسوع أمن ذاتك تقول هذا أم آخرون قالوا لك عني؟. أجابه بيلاطس ألعلي أنا يهودي، أمّتك ورؤساء الكهنة أسلموك إليّ.. ماذا فعلت؟ أجاب يسوع مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلّم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا. فقال له بيلاطس أفأنت إذاً ملك؟ أجاب يسوع أنت تقول إني ملك، لهذا قد ولدت أنا ولهذا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق، كل من هو من الحق يسمع صوتي. قال له بيلاطس ما هو الحق؟ ولما قال هذا خرج أيضاً إلى اليهود وقال لهم أنا لست أجد فيه علة واحدة. (يو 34:18)
وهكذا بعد أن استوجب بيلاطس السيد المسيح لم يجد فيه علة واحدة تستوجب العقاب وليس الموت، ولكن مع إصرار اليهود المعاندين الذين أرادوا أن يتخلصوا من السيد حيث رفضوا خلاصه وقبلوا بدلاً منه إطلاق صراح الشرير بارباس بدلاً منه، ليبرأ المذنب ويعاقب البريء بالموت.
وعندما وجد بيلاطس إصرار اليهود أراد أن يخلي مسئوليته من الحكم على بريء بالموت، فعندما علم أنه يهودي أرسله إلى هيرودس الذي كان يزور أورشليم في هذا الوقت.
المحاكمة الرابعة أمام هيرودس:
وأما هيرودس فلما رأى يسوع فرح جداً لأنه كان يريد من زمان طويل أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة وترجى أن يرى آية تصنع منه، وسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء. ووقف رؤساء الكهنة والكتبة يشتكون عليه باشتداد. فاحتقره هيرودس مع عسكره واستهزأ به وألبسه لباساً لامعاً ورده إلى بيلاطس. فصار بيلاطس وهيرودس صديقين مع بعضهما في ذلك اليوم لأنهما كانا من قبل في عداوة بينهما. (لو 8:22)
كان هيرودس يشتاق ليرى المسيح، ينتظر أن يرى منه آيه، وسأله بكلام كثير ولكن الرب لم يجيبه، بل نرى حتى لم يرد الرب عليه بكلمة لأنه لا يستحق أن يكلمه الرب، فقد وصف الرب يسوع هذا الرجل بأنه الثعلب حيث أنه كثير المكر والخداع لذلك كان لا يستحق أن يكلمه الرب وبقى صامتاً، عندها احتقره هيرودس وجعل جنوده يستهزءون به ثم يرجعه مرة أخرى لبيلاطس, وبذلك الموقف يصير الإثنان أصدقاء بعد أن كانت بينهم عداوة، وهكذا دائماً السيد المسيح مصدر سلام حتى بين الأشرار، فهو عندما يحل في أي مكان يأتي السلام وتُنزع الخصومة.
المحاكمة الخامسة أمام بيلاطس للمرة الثانية:
فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب وقال لهم: قد قدمتم إليّ هذا الإنسان كمن يفسد الشعب، وها أنا قد فحصت قدامكم ولم أجد في هذا الإنسان علّة مما تشتكون به عليه، ولا هيرودس أيضاً لأني أرسلتكم إليه، وها لا شيء يستحق الموت صنع منه. فأنا أؤدبه وأطلقه.
لقد كان بيلاطس مصرّاً على أن لا يحكم على الرب يسوع حيث أنه كان لا يجد فيه علّة، لذلك استدعى رؤساء الكهنة والشعب ليؤكد لهم أنه لم يجد فيه إي علّة ولا هيرودس أيضاً، بل نراه يقول لهم إني أؤدبه وأطلقه.!!! بيلاطس يريد أن يؤدب المسيح له المجد، إنها عباره تستحق التأمل حقاً.. ورغم ذلك كان إصرار اليهود أقوى من كل مطالب بيلاطس في العفو عن يسوع.
ثم أمر بيلاطس بجلد المسيح، ولأن الجلد لم يكن عقوبة لأي مصلوب ولكنه أراد أن يسترضي اليهود بها، فعندما يجدوه مجلود مُعذب ربما يكتفوا بذلك، ولكن أيضاً فشلت هذه المحاولة وزاد إصرار اليهود في مطلبهم بصلب المسيح، بل ووصل الأمر عندما وجدوا رغبة بيلاطس في إطلاق المسيح قائلين له إن أطلقت هذا فلست محباً لقيصر, كل من يجعل نفسه ملكاً ليس محباً لقيصر. (يو 19)
فلما سمع بيلاطس هذا القول أخرج يسوع وجلس على كرسي الولاية في موضع يُقال له البلاط وبالعبرانية جبّاثا، وكان استعداد الفصح ونحو الساعة السادسة. فقال لليهود هوذا ملككم. فصرخوا خذه خذه أصلبه، قال لهم بيلاطس أأصلب ملككم، أجاب رؤساء الكهنة ليس لنا ملك إلا قيصر. فحينئذ أسلمه إليهم ليصلب.
فأخذوا يسوع ومضوا به. فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يقال له موضع الجمجمة ويقال له بالعبرانية جلجثة حيث صلبوه وصلبوا اثنين آخرين معه من هنا ومن هنا ويسوع في الوسط.
وهكذا رفض اليهود المعاندين ملك السيد المسيح لهم، رفضوا خلاصهم رفضوا محبته لهم رفضوا فداءه وارتضوا أن يكون ليس لهم ملك إلا قيصر، ليبقى دم السيد المسيح منذ تلك اللحظة على أيدي هؤلاء اليهود وأولادهم كما صرخوا وشهدوا أمام بيلاطس عندما غسل يده ليبرئ نفسه من دم هذا البار.
ولكن هل حقاً بيلاطس بريء من دم المسيح أيضاً؟؟.. بالطبع لا.
لقد خرج المسيح بعد هذه المحاكمات الخمسة حاملاً صليبه ليسير في طريق الآلام طريق الجلجثة، كانت كل خطوة في هذا الطريق تُقرّب السيد المسيح من إتمام عمل الفداء الذي جاء لأجله ،الفداء الذي سيخلّص به كل إنسان يؤمن به.
كان مشهد مؤثر وحزين في كل نفس محبة للمسيح استمتعت بحبه وحنانه وعطفه، ولكن هل ينتهي المشهد على هذه الصورة المؤلمة، هل المحاكمة بالصلب والصلب هي نهاية الطريق؟؟ بالطبع لا.
فسوف تُكلل هذه الرحلة بأمجاد وأفراح القيامة...... |