بقلم: القمص أثناسيوس فهمي جورج
في يوم الخمسين حل الروح القدس على التلاميذ الأطهار, وهو الوقت المعين لتحقيق الوعد الذي عليه رجاؤنا.. لقد بدأ فيه عصر الروح القدس الرب المحيي الذي يرتب بكل حكمة كل ما يخصنا بحسب التدبير الإلهي وأحكامه التي لا تستقصى, وهذه هي أسرار المسيح إلهنا..
ظهر الروح القدس في هيئة محسوسة بعد أن صعد المسيح له المجد إلى موضعه الخصوصي وجلس عن يمين أبيه الصالح, وأرسل لنا الروح المعزي الباراقليط. فبعد أن تمجد يسوع بصلبه وقيامته وصعوده أرسل لنا الروح القدس عطية المصالحة.. علامة وشهادة أكيدة على مصالحتنا.
لقد كلمنا ووعدنا (خير لكم أن انطلق لأنه إن لم انطلق لا يأتيكم المعزي) {يو ٧:١٦} إذ أن علامة سخط السماء هو تباعد الروح القدس عن البشر.. على خلاف ما رأيناه و ما نعيد له في العنصرة, حيث فيض انسكاب العطايا والهبات السماوية.
جاء إلينا الروح القدس بعد صعود المسيح الممجد, كي يعزينا (معزيًا آخر) {يو ١٦:١٤} وكي لا يتركنا يتامى, فنعرف مساواته الأقنومية, ذاك الروح القدس التعبير العلوي الذاتي للجوهر الإلهي.
انسكب مثل (ألسنة) بسبب اتصاله بالكلمة اللوغوس, (نارية) بسبب قدرته على التنقية والتطهير, نار آكلة مُطهرة بسبب جوهره, نار للتدفئة والإضاءة والإصلاح وحرق الأشواك والآثام وشوائب الإنسان العتيق, نار الحرارة والالتهاب, نار تنقى وتصفى الذهب, نار نطلبها لتتدرب عزائمنا وحواسنا.
ألسنة نارية (منقسمة) بسبب تنوع المواهب وتعددها، استقرت لأنها تملك وتستريح في القديسين.. فلنصعد إلى العلية (كنيستنا المجيدة) لأن العتيدين أن يقبلوا هذا الروح القدس يجب أن يرتفعوا عن الدنايا ويتسامو عن الصغار والأعمال الترابية, وأن يتركوا تعلقات الأرض, غير مستعبدين لأدوات وشهوات هذا العالم. ففي العُلية منح ربنا و إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح أسراره الإلهية المشفية المحيية غير المائتة للذين تكملوا بالخيرات الفائقة.
لقد امتلئ البيت برائحة عطرة تلك الرائحة للذين يستنشقون نسائم الروح ويميزونها (أنفاس الله). لقد دشن الروح العُلية وهو الفاعل في أسرار الكنيسة يقدسها ويطهرها ويكملها ويظهرها قدس للقديسين.
هذا الروح استقر واستراح في الكنيسة وقديسيها الذين سبحوا الذي بالمجد قد تمجد, صعد إلى أعلى السموات وأرسل لنا الباراقليط روح الحق المعزى.. وليس اعتباطًا أن تختار الكنيسة هذا القرار ليكون محور نشيد عيد الخمسين, فمجد الله وقوته قد أعطاه للكنيسة كرمته الحقيقية التي غرستها يمينه.
المسيح الممجد في ذاته قبل كون العالم, أعطى مجده لعروسه الكنيسة ولقديسيه كي يأتوا بثمر كثير.. أعطانا في هذا العيد -روحه- روح السيد الرب روح الحكمة والفهم والمشورة والقوة والمعرفة والمخافة والهداية والراحة والحق والوداعة والتأييد والاستقامة والحياة. نحن نقدم له إيماننا وهو يمنحنا عطاياه السماوية, نقدم له تجاوبنا وطاعتنا وهو يعطينا غفرانه وتبريره ومواهبه.
سكب علينا روحه القدوس كمطر سماوي كي نثمر ونخبر بفضائل الذي دعانا من الظلمة إلى نوره العجيب.. أعطانا روحه ليخبرنا ويعلمنا ويقدسنا ويعزينا ويرشدنا ويبكتنا ويفهمنا كل الأسرار ويمكث معنا إلى الأبد.
إن روحه القدوس يشفع فينا بآنات لا ينطق بها ومجيدة, ويعين حياتنا وجهادنا وهو مكمل للجميع.. أنه يطهرنا من نقائصنا وينهضنا من خيباتنا, إذ أنه لا يخيب الذين يلتجاؤن إليه, بل يهب حيث يشاء ليغير ويقدس كل من يقبله ولا يحزنه بل يضرمه.
أنه يقدسنا لأنه روح القداسة والتقديس, يتأصل فينا حتى لا نتمركز حول ذواتنا, فنشترك في خلاصنا المشترك بشركة الروح مع الذين سبقونا و مع الآتين من بعدنا (فالمسيحي وحده ليس بمسيحي) ولا خلاص لأحد خارج الكنيسة مستودع وخزانة التقديس.. روح التقديس يجمعنا ويصيرنا جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا لنجد نصيب وميراث مع كافة القديسين في وحدة منظورة, وحدة سلام وبنيان كنيسة الله.
أنه روح الوحدة والحق والحرية والعتق الذي يحررنا ويعتقنا من ضعفاتنا وسقطاتنا وشرورنا, يصالحنا مع الله ومع أنفسنا ومع إخوتنا, نتقبل الاعتراف ببعضنا البعض, ونحترم الروح القدس الذي في بعضنا البعض.
ليعطنا الله عدية هذا العيد قمحًا ومسطارًا وزيتًا كي نعى عمل النعمة غير المنظورة معنا وفينا.
فلو لم يكن الروح القدس حاضرًا لما تأسست الكنيسة, ولولا حضوره لما تقدسنا ونتقدس, فحيثما وجدت الكنيسة وجد الروح القدس ينبوع الحياة الأبدية.
نسأله أن يجعلنا عبيدًا لا ينكرون المعروف ويكتب أسمائنا في سفر التذكرة وأن يحرق كل خطية رابضة وكل مجد باطل وكل اكتفاء وبر ذاتي.
نسأله أن يبكتنا على كل خطية وبر ودينونة وعلى كل إخفاق في معرفة نعمة القيامة, فنسلك بلا فتور من قوة إلى قوة.
نسأله أن يجمعنا ويوحدنا متفقين في سيمفونية حقيقية إنجيلية مثل الرسل, وأن يؤلفنا معًا مثل القيثارة, ويقربنا لنصير رعية واحدة لراعٍ واحد, لأننا سُقينا روحًا واحدًا, نسأله أن يبنينا معًا مسكنًا لله في الروح, وأن يرفع من بيننا كل مرارة وسخط وغضب وصياح وعداوة.
نسأله أن يصنعنا آنية وأوعية جديدة للفخاري الأعظم, فتنير نفوسنا بإعلان الخلاص والفداء, وأن يرفعنا إلى أعلى المنارة لينظر العالم الساقط المستعبد لأبليس نور مخلصنا. تنجلي المصابيح وتضئ بانتشار نوره للعالم, ويمتد ملكوت المفديين حيث لحن المعيديين والناظرين إلى لذة جمال إلهنا غير الموصوفة ولا منطوق بها. |