CET 00:00:00 - 18/05/2010

مساحة رأي

بقلم :  وزنة حامد
حاولتُ جاهدة أن أجد معنى للضمير, فكل منا يبحث عن تفسير لأشياء من حوله, سواء عن عبث ليقتل فراغه, أو لتحصيل حاصل نتيجة ضرورة عمل أو موقف.
 أسدلتُ ستارة غرفة نومي, جلست جوار الطاولة أوزّع دخان سجائري في فضاء الغرفة، وأسوح رانية خلف خطوطه المدورة, والمستطيلة.

كان الوقت آخر هزيع من الليل, لمحت من خلال ستارة النافذة الشفافة جاري المخمور دائماً، عائدًا من خمارته، يجرجر قدميه بصعوبة بالغة، تارة يغني, وطور يشتم , لم أكترث له أو أهتم بمنظره, ولكن اللافت والأشد غرابة أن شخصيته في الليل تختلف عنها في النهار, من قال أن الإنسان يملك وجهين لمعدن واحد ...؟ 

جاري هذا له أكثر من وجهين, ففي البيت تراه هادئًا مرحًا مثقفًا, يناقش , يفند, يدير شؤون بيته برزانة وحكمة, لطيفاً مع زوجته, هادئاً مع بناته, مرحاً مع أطفاله, تجلس إليه لساعات فلا تمل, يقص عليك أخبار وطرائف ما صادف في حياته أثناء تنقلاته وأسفاره في بلاد بعيدة وقريبة, لا يشرب في البيت، وإن ظل عشرة أيام قابعاً في ركن البيت.
 وفي مكتبته تراه عصبيًا حادًا جلفًا، متقوقعاً في قارورة ( الروتين )، لا يتكلم في دوامه سوى ما ندر، ويكتفي بالإشارة مستكفياً بثمة عبارات ( صح .. خطأ ...يجوز .. لا يجوز...)، وإن تكرم على صاحبه فيسخوا بكلمة : أهلاً ... أو مع السلامة.
 أما في الليل فيستحيل أن تراه بعد الساعة العاشرة، وإن بحثت عنه زوجته أو أحد من رفاقه؛ لأنه كما يصف خمارته ( في الأكاديمية )، وهذه تسميته لها منذ أن احتلم بالسكر, إنه كالأفعى بثلاث أوجه، والأفعى لها ثلاثة جلود تغيرها في أربعة فصول من فصول السنة.

 أمسكت برداء الضمير وحاولت أن أقيسه على شخصيته، وللأسف كان الرداء أوسع من جسده، فبدا لي أنه أصغر من الضمير، أعدت الضمير إلى خزانته؛ لعلني أجد من يتطابق مع شخصيته, وعللت بصيرتي بالصبر وبإنتظار آخر ، ربما أجد فيه ما يغنيني عن مغبة رحلة تفسير الضمير ومعرفته.
 لم تدم اللحظات تتراءى كحباب الماء فوق ساقية الإنتظار ، حيث  فاجأ ذاكرتي جاري الثاني، الذي سجلت له مخافر المدينة أكثر من  عشرين محضرًا للسرقة, منها سرقة موصوفة، ومنها سرقة بالقسوة والخلع، ومنها النشل في الباصات.

 كان هذا الجار صادقاً فى مواعيده, باراً بالفقراء يقلد الصعاليك في أسلوبهم , يسرق ليغني الفقراء، ويسر المحتاجين، ويسد رمق الفاقة في جوف العوز , لم يوفر لذاته سوى قوت يومه , يبذر ما يسرق ويهب ما ينشل, أقسم ألا يسرق فقيرًا ، وقال جملته المشهورة لديّ ( ماذا أسرق من الفقير ..؟ اسم الفقير ...؟...!

وأذكر أنه هدد غنياً، لأنه لم يتصدق في ساحة المسجد على فقير..

 أجلسته فوق كرسي الإعتراف, جردته من كل الفضائل, تعرى موقفه وتعرشت نواياه, فتبين لي أنه بعيد عن الضمير وإذا التقى به، بما يُشبّه به لا أكثر.
عدت إلى ذاتي, وقررت التوغل في أعماق الناس بحثًا عن الضمير, هذا الاسم الذي تعلق بأستار الوجود إلى الأزل, ورحت أملأ الغرفة تأففًا وإنقابًا , وفي كل روحة وجيشة أفر زفرة المتوجع.

 رن الجرس على باب دارنا , هبطت بسرعة خاطفة كأني على موعد, وحين وصلت كان أخي عائداً من دروس إضافية لطلاب له, فتحت الباب ورددت تحيته وأنا مولية ظهري, وعدت للغرفة، وأوعزت لنفسي أن تستنبط أروقة ذاتية أخي, فأخي يدرس في الثانوية مادة اللغة العربية, يتهرب من نصف الدرس بحجة من الحجج، أو يتأخر عن دخول الفصل بذات الحجج, ويطلب من الطلاب قراءة الملخصات,  وقد جمع للطلاب ملخصاً وأرغمهم على الإلتزام بنصوصه ودفع ثمنه لجيبه, وهذا منتهى النفاق مع أسس التعليم, ومنفذ للمصلحة الخاصة , وراتبه لا ندري كم هو، لأنه لا يعرف، ولا ينفق ليرة منه على مستلزمات البيت ويعلم يقيناً أنه مغامر نساء ومبذر هدايا لهن.

 قرفت من جلسة ذاته فأنهضته من فوق كرسي الإعتراف, وكان بعيداً عن الضمير بُعد الصحراء عن البحر, تمطى الفجر وتثاءب، وأنا ما زلت أتقلب على فراشي؛ بحثاً عمن أجد في داخله ما يسمى بالضمير, القلق غلّف سكوني وهدوئي, الضجر لفّ رأسي بالصداع , النوم يتراوغ أمام أجفاني, علبة السجائر فارغة , أكواب الشاي جفت حوافيها، أعقاب السجائر ملأت الصحن,  حتى الستائر التي غفت على أكتاف النوافذ راحت تتململ، ربما من الضجر أو مداعبة الفجر.

 أطللت من النافذة, كان عامل التنظيفات يكنس الشارع , مدركاً إن النسيم حمل كل الأوراق إلى مكان بعيد, هذا أول درس رسب في الإمتحان، لأنه لا يملك بين جوانحه ضميرًا إن كان يملك رادعاً بين جوانبه أم لا,  لم أرحب بالفجر ولا بالوردة التي جرحها من قبلته, حتى النافذة لم أشرعها ، فبيني وبين النسيم غضاضة، فبالأمس حين خرجت عند الفجر لجلب الحليب من دار العجوز عبث بشعري، بعدما صففته زهاء ساعة من الزمن ، وعطري مزق رائحته عبثًا.

 صادفني بائع الكعك , هذا البائع لا داعي لأقيس معايير الضمير عليه،  فهو يغطي الكعك بالسمسم ؛ رياءً للأطفال وجلباً لهم، وربما تكون الخميرة عفنة أو قد انتهى مفعولها.
اتجهت للبحر وللبحر شجون في مده يمتص أرصاصات كل من حوله , لا يشكو ولا يتذمر, صاخب لنفسه, غاضب لذاته, هادئ للآخرين, حنون معطاء, اقتربت من الشاطئ, كان هناك شاباً تبدلت هيئته للفقر، أشعث الشعر, أغبر الوجه, قاطب بين حاجبيه, جلست جواره, لم يلتفت, كان يخطّ في الرمل حفنة مشاعر ترجمها بالأحرف .
 سألته : "أمن زمن بعيد أنت هنا ؟
 لم يلتفت ولكنه أجاب : "أنا هنا منذ ولد البحر من رحم اليابسة"
 قلت : ولماذا أدرت ظهرك للمعمورة ..؟ 
 قال : لأنها بلا سكان ....
قلت بدهشة : وهذه الناس؟!!
رد : بلا إحساس ....
قلت:  وكيف يولد الإحساس؟
قال: سلّي البحر ... سلّي الموج .. سلي النورس ...
سألته : والبشر ؟
قال : أي بشر ...؟
أرجل تتحرك ... رؤوس بلا أعين ... وصدور بلا أفئدة ... وشرايين بلا دم ...
سألته : ماذا تعمل ؟ وما هي صنعتك ؟
أجاب : أكتب للحياة ...
قلت له : الآن فكرت فى الحياة ... وتتحدث عن الحياة ...
 قال: أتحدث عن الحياة القادمة ... وليس عن الحياة التي مشت بالأمس.
سألته : ما أسمك ...؟
أجاب : لا داعي فأسمي موجود مع أناملي..
قلت : كيف لا أفهم ...؟
قال : لأنك من الحياة الفائتة ...
ألححت عليه : بالله من أنت؟ 
رد وهو يختفي ... أنا الضمير ...

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٢ صوت عدد التعليقات: ٤ تعليق

الكاتب

وزنة حامد

فهرس مقالات الكاتب
راسل الكاتب

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

مواضيع أخرى للكاتب

الباحثة الضائعة

جديد الموقع