• القس يعقوب عماري: إذا افترضنا جدلاً أن الصلب لم يحدث أبداً للمسيح، فكيف انتهت إذاً حياتُه؟ ولماذا يغفلُ الوحي من ذكر ذلك بتفاصيله الدقيقة؟
• كما أنزل الله كبشاً من علياء سماءه ليفدي ولد ابراهيم، أنزل الله إلينا حملاً طاهراً نقياً كنقاوة الثلج وأكثر.
• في حادثة ابراهيم مات الكبش وعاش اسحق، وفي حدث الصليب مات المسيح وبموته نلنا الحياة.
• الرحمة والعدل صفتان لا يلتقيا في شخصٍ واحد، لكن في الصليب الرحمة والعدل التقيا، وفيه صارت الرحمة والغفران للمؤمنين التائبين الراجعين إلى الله.
• المسيحية بلا صليب كسماء بلا شمس.. بوصلة بلا إبرة.. ساعة بلا عقارب.. مصباح بلا زيت.. موسيقى بلا ألحان.. غيث بلا أمطار.. أو ككتاب بلا حروف.
• لا أبالغ لو قلت أن صليب المسيح هو فخر الكنيسة المسيحية منذ أن وُجدت وعبر كل عصورها!..
حاوره: عماد توماس – خاص الأقباط متحدون
قصة هذا الحوار:
يحتفل الأقباط بتنوع طوائفهم في هذه الأيام بأسبوع آلام السيد المسيح الذي يمثل أقدس أيام السنة للمسيحيين، وتعيش الكنيسة ذكرى صلب وموت وقيامة المسيح من خلال الألحان الكنسية والقراءات الكتابية، وبهذه المناسبة الجليلة نلتقي مع القس يعقوب عماري في حوار مطول حول قضية صلب المسيح ليجيبنا عن مصدر عقيدة صلب المسيح؟ وماذا تمثل في المسيحية؟ وهل يمكن أن يتخلى المسيحيون عنها؟ وكيف يرضى الله بتقديم المسيح على الصليب كأضحية بشرية لا حيوانية؟ وهل هناك علاقة بين صليب المسيح ومطالب عدل الله؟ وكيف يفتخر المسيحيون بصلب المسيح... رغم كونه أداة للقتل والتعذيب؟ وهل حقًا صُلب المسيح أم شُبّه لهم؟... وكانت المحصلة في النهاية هذا الحوار.
القس يعقوب عماري في سطور
القس يعقوب عماري وهو من مواليد الأردن في 1 يونيو 1934، وتخرج من كلية اللاهوت في عام 1960 من كنيسة الناصري في بيروت، وبنفس العام عيّن راعياً لكنيسة الناصري في القدس، وفي عام 1962 عيّن راعياً لكنيسة الناصري في الكرك بجنوب الأردن، وعُين رئيساً لكنائس الناصري في سوريا ولبنان والأردن في عام 1979 إلى 1992.
وشارك القس عماري في تقديم عدة برامج إذاعية من خلال إذاعة حول العالم منها "محطات وعبر" من عام 1992 حتى 2004، وبرنامج هل تعرفه لثلاث سنوات الذي ركز به على حقيقة هوية المسيح، ونشر له العديد من المقالات على الإنترنت وفي الصحافة مثل جريدة الطريق والحق مجلة صوت الكرازة بالإنجيل، وقدم العديد من العظات والمحاضرات في كنائس ومؤتمرات بالعربية والانكليزية في الشرق والغرب، ويقوم الآن بإعداد كتابه للطباعة عنوانه: "القول الصريح في مَن تُرى يكون المسيح"، وهو متابع جيد لموقع "الأقباط متحدون" ويشارك في التعليق على بعض المواد المنشورة بالموقع.
• كيف بدأت خدمتك في إذاعة حول العالم بمونت كارلو؟
أثناء تأزم الحرب الأهلية اللبنانية عُرض عليّ أن أقوم بتقديم برنامج إذاعى يتاح من خلاله لكنيسة الناصري أن تقدم برنامج من إذاعة حول العالم بمونت كارلو، وبعد صلاة وتبصر في طبيعة هذه الخدمة التي كنت أجهلها وجدت أن الرب يريدني فيها... فقبلت العرض وبدأ بث برنامج "محطات وعبر" في 30 مارس 1992.
• حضرة القس/ عماري... حوارنا سيكون حول قضية الصليب، دعنى أبدأ بسؤالي من أين جاءت عقيدة صلب المسيح؟ وهل هناك شهود عيان على هذه الرواية؟
لم تأت عقيدة الصلب من فراغ، ولا جاءت من خيال الناس لتنهي قصة حياة شخصٍ اسمه المسيح.. ولد وعاش ومات، حسب المقولة: تعدّدت الأسباب والموت واحد، فاخترعوا له سبباً للوفاة فقالوا: "صُلب.." ولنفترض جدلاً أن الصلب لم يحدث أبداً للمسيح، ألا ترى حينها أننا نقف أمام فراغ مبهم في تاريخ حياة المسيح لا تفسير له؟ فكيف انتهت إذاً حياتُه؟ ولماذا يغفلُ الوحي من ذكر ذلك بتفاصيله الدقيقة؟ ألم يحدِّثنا الوحي عن تفاصيل ميلاده بكل دقةٍ ووضوح؟ جاء في سفر الأمثال: نهاية أمرٍ خير من بدايته.
وهل يُعقل أن تبقى هناك فترةٌ مبهمة في تاريخ حياة المسيح.. فكيف كانت نهاية هذا الشخص العظيم الذي لم يعرف العالم على مدى التاريخ أعظم منه أو من يماثله في الجلال؟ أيُعقل أن نعرف عن أفلاطون، وهانيبعل، وأمرؤ القيس، وجبران خليل جبران، كيف ماتوا وكيف انتهت حياتهم، ثم عندما نأتي إلى سيرة حياة سيد فاق مجداً عن جميعهم كالمسيح لا نعرف شيئاً عن تفاصيل نهاية حياته؟ أو أن تتضارب الروايات حول وكيفية نهاية حياته؟ وهو العظيم الذي عاش أعظم من عظيم فأبهر الدنيا بمعجزاته وتعاليمه وأقواله ومبادئه وسلوكياته!!! أيُعقل هذا؟!!
أما الحق.. فالرواية الوحيدة الواضحة التي بقيت لوحدها في الميدان على مرّ الزمن بلا منافس ولا جدال وهي مبنية على علمٍ صحيح بخصوص نهاية حياة المسيح على الأرض هي رواية الصليب كما دونها الوحي في إنجيل الحق، وفوق هذا وذاك للرواية شهود كثيرون، منهم قديسون مؤمنون هم أتباع للمسيح الذين شاهدوا الحدث وهم بكامل وعيهم، وحاشا لله أن يضلهم أو يخادعهم في ما رأوه، فهؤلاء ممن قيل عنهم "وآمنت فئة" ولم يكونوا من الكافرين، وهناك شهود آخرون من أعداء المسيح الذين نادوا بصلبه فحرصوا على أن يشاهدوا تنفيذ المهمة بكل دقة.. ومعهم أيضاً كان الجنود الرومان الذي نفذوا عملية الصلب، وكان غيرهم جموعٌ أخرى حملتهم الأقدار أن يمروا في الطريق المحاذي لساحة الصلب، وهناك غيرهم ممن تتبعوا الأخبار فجاءوا يدفعهم حب الإستطلاع وشاهدوا ما جرى.. فأي حاكم أو قاضٍ عادل يُسقط شهادة كل هؤلاء الشهود ويأمر بملف القضية للحفظ بسبب عدم توفر الأدلة! والأدلة كثيرة.
• من وجهة نظرك... ماذا يعني الفداء في المسيحية؟
دعني أبيّن لك بأقصى ما يمكن من تبسيط معنى الفداء في المسيحية في ضوء فلسفة الصليب (إن جاز التعبير) فذلك يسهّل عليك وعلى غيرك استيعاب مبدأ الصليب وماله من علاقة بعدل الله:
فنحن كبني آدم أُصبنا بداءٍ عمانا جميعاً بلا استثناء، ولم يفلت من هذا الداء إنسان واحد… وهذا الداء يسميه كتاب الله سواء في التوراة أو الإنجيل "الخطية".. فنحن جميعاً توراثنا في دمائنا من أبينا آدم طبيعة الخطية، بعد سقوطه في معصية الله، والخطية غرست فينا الميل إلى الإثم في الفكر والقول والعمل، وهذا الواقع الذي نعيشه كبشر لا يستطيع أن ينكره أحد لأن ظواهر الخطية واضحة ملموسة تحت نور الشمس… فالخطية سافرة في الشارع، في البيت، في المكتب، في المصنع، في مداخلات الناس وتعاملهم اليومي مع بعضهم البعض.
هذه كلها صور تؤكد أن الإنسان بطبيعته آثم ضعيف أمام شهوات الخطية وسرعان ما يسقط بحبائلها.. ولهذا استحق علينا جميعاً العقاب، ولهذا أيضاً طردنا من جنة الله، وما زلنا نعيش في أرض المنفى بعيداً عن الجنة منذ آلاف السنين، ولذلك شرَّع الله للبشرية من بعد سقوط آدم مباشرةً بأن يتم الفداء عن طريق دم الأضاحي.. وسار الأمر كذلك حتى قبل الشريعة الموسوية على اعتبار أنها أول شريعة ربانية عرفتها البشرية.
• كيف يرضى الله بتقديم المسيح على الصليب كأضحية بشرية لا حيوانية؟
دعني أذكرك بسابقةٍ مرت في التاريخ نعرفها جميعنا وهي ما جرى مع أبينا إبراهيم خليل الله، فكلنا يذكر أن الله طلب من نبيِّه إبراهيم أن يأخذ ابنه وحيده ابن الموعد الذي جاء بمعجزة وبإعلان سابق بعد فوات سن الحمل، ابن الدلال الغالي اسحق، ليقدمه ذبيحة أضحية لله في مكانٍ عيّنه له الله، وهو ما يسميه البعض بالأضحية البشرية، حدث له سابقة خطط له وبوشر بالتمهيد له بدقة ثم أعفي عن الضحيّة وقدم البديل من الله بوضوح الرؤيا وعلى المكشوف وبحضور شهود العيان.
فعندما سمع إبراهيم قول الله لم يتردد وبكّر صباحاً وسافر على دابته يرافقه ابنه واثنان من خدامه إلى جبل المريا في مدينة "يبوس" التي هي أورشليم/ القدس المكان الذي عينه له الله لتقديم ابنه فيه… وبعد أن وصل بنى ابراهيم حجارة المذبح ووضع عليه الحطب ثم أمسك بابنه فلذة كبده وربطه فوق المذبح، والصبي منذهل لا يدري ما الذي يجري حوله… ثم رفع ابراهيم السكين ليهوي بها على عنق ابنه طاعة لله وحسب أمره!..
عندها تدخل الله ونادى: ابراهيم ابراهيم ارفع يدك... فالتفت ابراهيم حوله، وإذا بكبشٍ صحيح سليم ممسكٍ بقرنيه في أشجار الغابة خلفه… ففك ولده وتقدم وأخذ الكبش وقدّمه أُضحيةً لله بدل ابنه، فمات الكبش ونجى الصبي.
ونتساءل: من أين هبط الكبش على ابراهيم أيعقل أن الله استعاره من أغنام الناس؟. حاشا.. فالكبش هبط على ابراهيم من عند الله وليس من سلالات أغنام البشر!..
• ما العبرة من كل هذا؟
العبرة هنا، كما أنزل الله كبشاً من علياء سماءه ليفدي ولد ابراهيم، أنزل الله إلينا حملاً طاهراً نقياً كنقاوة الثلج وأكثر، فكان المسيح هو الحمل، ومات المسيح عنّا على الصليب ليحلَّ مكاننا ويحمل عنّا عقاب خطايانا وينزع عنا حكم الموت في عذاب الأبدية، مات هو لنحيا نحن، وبموته ذاك أخذ العدل حقه والرحمة منحتنا الغفران.
في حادثة ابراهيم مات الكبش وعاش اسحق، وفي حدث الصليب مات المسيح وبموته نلنا الحياة.. هنا ملاحظة لا بد من توضيحها: فالمذنب المحكوم عليه بالموت عادةً يُقتل ويموت ويُدفن وينتهي به الأمر في قبره "يشبع فيه موتاً" إلى يوم القيامة، أما المسيح الذي ناب عن الأشرار كما ناب الكبش عن اسحق فلكي تبدو براءتهُ واضحة في نور الشمس بعدما مات ودفن، لم يلبث في قبره بل قام في فجر الأحد دائساً الموت تحت قدميه، فصار لنا يوم قيامته عيداً نعيِّدُهُ في مطلع كل أسبوع.
• قسيس عماري.. ما زال السؤال قائماً.. ما هي العلاقة بين صليب المسيح ومطالب عدل الله؟
هناك حقيقة هامة ينبغي التوقف عندها ملياً للتأمل برويةٍ وبذهنٍ مفتوح، وهي أن الرحمة والعدل صفتان لا يلتقيا في شخصٍ واحد، فأنت إذا حُكِّمْتَ في قضية بين شخصين إما أن تكون عادلاً أو رحيماً، فالرحمة والعدل نقيضان لبعضهما البعض، ربما الرحمة تقبل النسبيّه عادةً بين الناس لكن العدل لا يقبل التجزئة، فالقاضي الذي يَمْثُلُ أمامه الجاني بجريمة قتلٍ أو اغتصابٍ مثلاً فلو عفي عنه رغم توافر الأدلة المقنعة على تجريمه "انكسر العدل"… ولو عدل القاضي وأنزل به العقاب بلا انتقاصٍ غُيِّبت الرحمة، فالرحمة يمكن تخفيفها بنسبٍ معينة، أما العدل فلا يقبل التجزئة... ويلاحظ أننا نحن كبشرٍ مذنبٍ مقصرٍ بحق الله، نلهج دائماً برحمة الله، أما عدله فيقلقنا ويرعبنا، والمذنب في المحاكم يتأمل في أسباب الرحمة أما العدالة فترعبه.
• كيف التقت الرحمة والعدل في ذات الله دون أن تكون الواحدة على حساب الأخرى؟
رحمة الله كاملة غير مجزأة وعدله كامل غير منقوص... فعندما أخطأ أبوانا آدم وحواء طردا من الجنة وحرما من دخولها ثانية حتى يستوفي العدل حقه… ويقول الوحي في سفر التكوين الإصحاح الثالث بعد طردهما: "وأقام الله لهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة"، أي لحراسة طريق الجنة من أن يعبرها الإنسان قبل أن يُستوفي حق العدل ويأتي من يمكن أن يدفع الثمن ويوفي عدل الله حقه… ومن يومها لا آدم استطاع، ولا بنوه ولا ذريته، ولا الأنبياء الذين خرجوا من صلبه، والدليل أن الإنسان ما زال يعيش ويموت على تراب الأرض، في أرض المنفي خارج أبواب الجنة.
وجاء المسيح مولوداً من عذراء "مولود غير مخلوق" لم يأت من زرع بشر، فجاء طاهراً طهارة مطلقة لم يتمتع بها إنسان لأن آدم ليس أبوه، فهو لم يرث منه طبيعة السقوط، وهذا أعطى المسيح الاستحقاق أن يتقدم الجموع البشرية بثقة إلى باب الجنة المحروس بلهيب السيف المتقلب فنزل سيف العدل على جسده وسحقه ونزف دمه، وهذا ما تم في معركة الصليب… وهناك دفع المسيح الثمن الغالي لإرواء عدل الله، وعاد السيف إلى غمده بعد أن ارتوى من دم المسيح وصار باب الجنة مفتوحاً من حينها لمن يهوى الدخول، ولكن برفقةِ الوسيط الذي دفع الثمن، وكان أول من أُعطي رخصة الدخول بعد معركة الصليب هو اللص التائب الذي صُلب مع المسيح، إذ قال له المسيح: "الحق أقول لك أنك اليوم تكون معي في الفردوس".
ففي الصليب الرحمة والعدل التقيا، وفيه صارت الرحمة والغفران للمؤمنين التائبين الراجعين إلى الله، وبالصليب العدل أخذ حقه وسيف العدل ارتوى من دمٍ غالٍ ثمين هو دم المسيح... فالصورة أصبحت واضحة أمام البشر كافة.
• في رأيك ماذا تمثل عقيدة صلب المسيح في المسيحية؟ وهل يمكن أن نتخلى عنها؟
صليب المسيح يمثّل مركز الدائرة في عمق العقيدة المسيحية، فالمسيح جاء ليُصلب... ولو لم يُصلب قبل ألفي عام لما جاء، ولما وطأ بقدميه أرض العالم، ورسم الصليب اليوم أينما تراءى للناس في العالم يذكّر الداني والقاصي بهذه الحقيقة.
قال أحدهم: المسيحية بلا صليب كسماء بلا شمس.. بوصلة بلا إبرة.. ساعة بلا عقارب.. مصباح بلا زيت.. موسيقى بلا ألحان.. غيث بلا أمطار.. أو ككتاب بلا حروف.
ولذلك نقول أن الصليب هو نقطة الإرتكاز في كامل عقائدنا المسيحية، إذ بالصليب خلاصنا من الخطية، وبالصليب نجاتنا من عذاب النار، وبالصليب نصرتنا على قوة الشيطان التي تحاول استمالتنا لعمل الإثم والإنحراف عن الله.
الصليب حررنا من قوى الشر في نفوسنا، والصليب علّمنا كيف نسامح وكيف نرحم، وكيف نغفر لمن أساء إلينا، وبالصليب شقّ المسيح أمامنا الطريق إلى أبدية مشرقة مأمونة.
"الشيطان لا ترعبه الرماح المسنونة ولا تخيفه السيوف البارقة، ولكن أقصى ما يخشاه هو صليب المسيح.. لأن الصليب يحطّم القيود، ويكسّر الأغلال، ويحرّر أسرى الخطية، ويشفي القلوب الملوّثة بالخطية، ويصنع من الأشرار أبراراً، ومن العصاة مؤمنين.. طائعين وقديسين."
هذه هي الحقيقة!.. فهذا ما جاء المسيح لأجله، جاء المسيح ليموت موتاً فدائياً.. ليخلّص ويشفي النفوس التي سباها الشيطان ولوّثها الإثم، وليصنع منهم شعباً مقدّساً لله... فحقيقة صلب المسيح في العقيدة المسيحية لا تقبل المساومة ولا يمكن التخلي عنها.
• ما هو مفعول الصليب في الجانب العملي في حياتك؟
المسيح بصليبه فداني، وغفر خطاياي، وعفا عني، وتشعر نفسي بهذا الامتياز في أعماقي، ثم بالصليب قوة مغيّرة غيّرت حياتي. والتغيير الذي أتحدّث عنه تغيير جذري لا يقدر عليه أحد.. لا طبيب نفساني، ولا عالم ديني لأنه انقلاب عجيب يصل إلى 180 درجة، وأنا سعيد بذلك إذ يتمتّع قلبي بسلام الله، وعندما أتذكّر الأيام الأولى التي فيها تعرّفت على المسيح، تدمع أحياناً عيني ابتهاجاً بذكرى ما زلت أعيش حلاوتها خلال كل السنين الماضية.. فبالصليب تذوّقت فعلياً رحمة الله، إذ لولا تأثير مفعول الصليب في حياتي لكنت طائشاً مثل الكثيرين، كثيرون يلهجون برحمة الله وبغفران الله، ويعيشون في الخطية، ويتذرّعون بأعذار ومبررات يستمطرون بها مراحم الله بدون الصليب... وإن استمروا لن يستفيقوا على الحقيقة إلا عند أبواب الأبدية، وهناك سيرون المسيح الديان يصطف أمامه شعوب الأرض، ليقول لكل التائهين عن الحق: أكرمتكم بموتي على الصليب لأفتديكم... متّ أنا لتحيوا أنتم.. حملت خطاياكم على الصليب فاستحقّ عليّ القصاص بدلاً منكم.. نزل عليّ سيف عدالة السماء فأخذ حقه مني لتنجوا أنتم.. أنتم أخطأتم.. وأنا دفعت الثمن لأني أحببتكم... أسمعتكم صوتي بشتى الوسائل لترجعوا وتتوبوا وتؤمنوا.. أرسلت روحي ليهمس في قلوبكم ويوقظ ضمائركم.. الإذاعات لم تقصّر في توصيل النور إليكم.. والإنترنت وشواهد الحياة من حولكم.. فأبيتم وتقسّيتم وجادلتم ورفضتم فاستحقّ عليكم حكم الدينونة.
• يتساءل البعض... كيف يفتخر المسيحيون بصلب المسيح رغم كونه أداة للقتل والتعذيب... ألا ترى هذا يتناقض مع العقل والمنطق؟
سجل بولس الرسول افتخاره بالصليب حين قال: "حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم." يقصد أنه بصليب المسيح قد صُلب العالم بشهواته وإغراءاته، فلا استجابة لها عنده، وأنا أيضاً بصليب المسيح قد صُلبتُ عن شهوات الدنيا ودناياها، فعندما تناديني مغريات هذا الزمان - لا حياة لمن تنادي. فالمسيح بصليبه فك أسري وحررني من كل مغريات الدنيا، ولذلك أفتخر بصليبه، هذا ما عناه بولس رسول المسيح.
لا أبالغ لو قلت أن صليب المسيح هو فخر الكنيسة المسيحية منذ أن وُجدت وعبر كل عصورها!.. فكنيسة المسيح على تنوع فروعها ومسمّياتها، ومع امتداد التاريخ كله كان لها الصليب وما زال رمز فخرٍ واعتزاز وإجلال.. قبل صلب المسيح، كان الصليب أداةً وحشية ومنفّرة.. ولكن عجباً كيف حوَّل المسيحُ أداة القتل والتعذيب إلى رمز حبٍ وعطاءٍ وفداء!.. فبعد صلبه، اعتلى الصليب بفخر قباب الكنائس ومناراتها وأخذ الملوك يزينون تيجانهم بعلامة الصليب باعتزاز، وفي العديد من دول العالم اليوم يتصدّر الصليب أبواب صيدلياتهم، وينادي المريض من بعيد: "تعال، لدينا الدواء لمشكلتك!" وهناك مجموعة لا بأس بها من أعلام الدول التي تعتز بحضارتها ورقيها ويوشحها الصليب.. ثم مع بدايات القرن العشرين برز "الصليب الأحمر" كمؤسسة إنسانية عالمية لا تحدها حدود، استمدت رسالتها الإنسانية من رسالة المسيح فرفعت شعار الصليب بلون دم المسيح كشعارٍٍ للرحمة بجرحى الحروب والأسرى والسجناء السياسيين والمضطهدين والمعذبين في الأرض... ومن هذا المبدأ انبثقت جمعيات أخرى تحمل شعارات متنوعة ولها نفس الرسالة، وهذا يعني أن نظرة العالم كله أخذت تدرك معنى رسالة الصليب وما يوحيه الصليب من خدمةٍ ورحمةٍ إنسانية للبشرية المعذبة... فلولا صليب المسيح ما كان لهذه المعاني من وجود.
• البعض لا يقبل بصلب المسيح احتراماً وتقديراً له، يقولون أن الأنبياء معززون مكرمون لا نرضى لهم بالإهانة... فما هو تعليقك؟
إن مشاعر الودّ والتقدير هذه لا تلغي ما تعرّض له الأنبياء من اضطهادات، ومضايقاتٍ، وتهديد،ٍ وقتلٍ، وتعذيب؟! فكم من نبي اعتُدِيَ عليه فعُذِّب أو قُتل أو سُمِّم؟ والتاريخ سجَّل الوقائع، والأجيال من بعدهم قبلت بالواقعة وصدّقتها، لماذا إذاً ينصب الاعتراض حصراً على حادثة صلب المسيح بالذات؟
• البعض يقول أن بطرس كبير التلاميذ "الحواريين" رفض صلب المسيح، فعندما أخبرهم المسيح بأنه سيسلم لأيدي اليهود ويُصْلب، فاحتج بطرس وعاتب المسيح رافضاً فكرة الصليب؟..
عندما نقرا في الإنجيل في متى الأصحاح 16 "من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يُظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيراً من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل وفي اليوم الثالث يقوم. فأخذه بطرس إليه قائلاً حاشاك يا رب بأن يكون لك هذا... فالتفت المسيح وقال لبطرس: اذهب عني يا شيطان أنت معثرة لي، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس."
الشيطان همس في أذن بطرس وأوحى له بأن يعارض فكرة الصلب مثيراً فيه موقف المجتمع البشري الذي لا يقبل أن يهان سيدٌ كريم، لذلك قال لبطرس: أنت لا تهتم بما لله لكن بما للناس.
• قسيس عمارى في نهاية حوارنا دعني أسألك حول قول البعض أن المسيح لم يُصلب ولكن شبه لهم... ما ردك؟
سجلات الدولة آنذاك دونت الواقعة، وأصحاب الدعوى المشتكون على المسيح من اليهود شهدوا بأن رغبتهم قد نُفِّذت، والمسيح صلب أمام عيونهم.
ثم جسد المسيح المصلوب بقى على الصليب يرشح دماً على تلة بجوار الطريق لساعات طوال وهذا أعطى فرصة للجموع المارة أن تراه وتتوقف عنده وتتحقق من هوية المصلوب سيما وأن المسيح بشخصه كان معروفاً لدى الجماهير بسبب معجزاته، وتلاميذه راقبوا المشهد عن بعد وأيقنوا بما حدث وأمه مريم كانت هناك أقرب ما يكون إلى الصليب ترقب ابنها وهو يتلوى فوق الخشبة والأم تعرف ابنها جيداً وصديقات لها كن معها يعرفنه أضف إلى كل ذلك فهناك يوسف الرامي الذي وهب قبره الخاص به ليدفن المسيح فيه فهذا طلب من بيلاطس الحاكم أن يأخذ الجثة لدفنها واستجيب طلبه فأخذ الجسد وساعده كاهن يهودي كان قد آمن بالمسيح اسمه نيقوديموس والاثنان معاً تعاونا على تكفين الجسد الذي بقي بين أيديهما لفترة كافية من الزمن وهما يعرفانه جيداً.
فأي قاضٍ عادلٍ يمكن أن يسقط شهادات كل هؤلاء ويأمر بملف القضية للحفظ بادعاء عدم توافر الأدلة والأدلة كثيرة كما أشرت إليك.
ومن جهة أخرى نفترض جدلاً أن المسيح لم يصلب فالسؤال حينها يكون: كيف انتهت حياته إذاً على الأرض؟ وهل يعقل أن نعرف عن نهايات حياة جبابرة العالم وتبقى نهاية حياة هذا الجبار الأعظم مبهمة تتضارب حولها التكهنات، الإنجيل واضح حتى سجل الكلمات السبع الأخيرة التي فاه بها المسيح قبل أن لفظ النفس الأخير ومات. |