تحقيق : محمد بربر - خاص الاقباط متحدون
كان الأمر مثيرًا للغاية بالنسبة لى .. الصحافة رسالة ، هكذا أحاول إقناع نفسى حتى وإن رأيت من بعض زملائى ممارسات تدعو للحسرة على صاحبة الجلالة.
قررت اذن أن أصور آهات الناس- الآهات الإنسانية - وهناك رأيت مصر المنسية.
تقع (جزيرة العزبى) فى بحيرة المنزلة بين محافظتى (دمياط) و(الدقهلية) على بعد أربعين كيلو مترمن قرية( غيط النصارى) جنوب محافظة (دمياط )، واستوطن فيها سكان الجزيرة منذ أكثر من قرن عندما جاء جدهم الأكبر(العزبى) وأطلق عليها اسمه، وبنى له أحفاده مقامًا متواضعًا فى مدخل الجزيرة، وبمرور الزمن زاد عدد السكان حتى وصل إلى ثلاثة الاف نسمة .. يحلمون بالحد الأدنى من الخدمات الإنسانية الأساسية ..
وإننى على يقين تام بأن الكلمات لن تسعفنى، فكيف لى أن أترجم صورة طفل صغير يشرب من مياه البحيرة، وهى نفس مياه الصرف الملوثة .؟!! وماذا عساى أن أفعل إذن تجاههم ؟!!
قطعنا المسافة داخل مياه الجزيرة باللنش الطائر .. سرعته تشعرك بأنك تُبحر فى مياه الأطلنطى، غير أن تلوث المياه يُنبهك مرة أخرى أنك لا تزال فى مصر المنسية.
يعتمد رجال الجزيرة على الصيد، ولا يجيدون سواه، ونتيجة مياه البحيرة الملوثة عرفت منهم أن جميع الرجال والأطفال- تقريبًا - مصابون بالفشل الكلوى.
فى جزيرة (العزبى) تصب المنازل صرفها، غير الصحى بالمرة، على شواطئها ،ومن ثم يتعرض الأطفال والرجال بحكم حركتهم أكثر من النساء للإصابة بالبلهارسيا.
يبلغ تعداد سكان الجزيرة أكثر من ثلاثة آلاف نسمة، حسب ما رواه لى الشيخ (مفرح )، كبير الجزيرة.
إنها جزيرة منسية، وكأنها ليست أرضا مصرية .. لا يوجد بها مستشفى واحد يعالجهم، رغم وجود أراض كافية للبناء عليها ، وعلى من يمرض أو يشعر بالتعب أن يذهب إلى أى مدينة مجاورة.
" تخيلوا لو واحد مات مننا لازم نشتاله على اللنش مسافة 40 كيلو مترا حتى نصل إلى مقابرنا فى مدينة دمياط "
بهذه العبارة الدرامية تحدث عم (صبرى) عن أهل بلادنا.
قال لى (عم صبرى) فى لحظة يأس، لا تراها كثيرًا على وجوه الصابرين من أمثاله" كل أهل الجزيرة بيتشغلوا فى الصيد ونفسنا نعلم أولادنا .. مش عايزينهم يشوفوا اللى شفناه .. الجهل وحش بس منين نجيب لهم مدرسة ".
لا تجد صعوبة فى أن تستمتع بطيبة سكان الجزيرة وتمسكهم بالعادات والقيم المصرية الأصيلة.
جاءهم أشخاص من محافظات مجاورة ليعلّموا أولادهم، وذلك مقابل مبلغ من المال يتزايد بزيادة عمر الطفل حتى يصل إلى خمسة جنيهات فى الأسبوع الواحد، ولكنهم رحلوا ذات صباح ولم يعودوا .. ربما لأن معيشة الجزيرة قاسية .... هنا فقط .. تطرب أذناى جملة طه حسين الخالدة: ( التعليم كالماء والهواء )، وتصريحات الوزراء عن التعليم المجانى ، والخبز المجانى، و الحياة المجانية.
الأستاذ (مفرح) جاء إلى الجزيرة منذ سبعة أشهر ليعلم أطفالها القراءة والكتابة
صافحنى مبتسما وهو يقول :
"هنا ممكن الواحد يموت بسبب إصابته بحمى ،فالأمراض هى سيدة الجزيرة"
فى صوته الرخيم سمعت الألم خاصة بعد أن طرح السؤال :
"لماذا يُحرم الأطفال الصغار من حقوقهم، ولماذا يعاملون بهذه الطريقة ؟ أين المساواة التى ملئوا أفواههم بها ؟" ، و"أين العدل" ؟!!
استوقفتنى الجملة الأخيرة ... ظننت أنه مثلى يبحث عن العدل، ولكنه أقسم لى أن العدل قد مات.
الجزيرة المنسية لا تعرف الكهرباء، ومعظم العائلات تمتلك مولدًا يعمل من المغرب وحتى العاشرة مساء ثم يخلد الجميع إلى النوم.
حتى أن زميلى المصور سخر من قدرهم وسألهم :" أنتم إذن لا تشاهدون ليالى التليفزيون والمفتش كرومبو" ؟
لم يستجب عم سلامة لسخرية زميلى، وأمسك بذراعى والدموع تسيل من عينيه
والله يا أستاذ مفيش مية وبناخد مية الشرب من حنفية فى غيط النصارى، وده بيكلف كل عيلة 30 جنيه أسبوعيًا قيمة نقل مية الشرب فى المركب المخصص لنقلها
لم أتمالك مشاعرى وأنا أرى دموع عم سلامة، فطيبة هذا الرجل لم تمنعه من فضفضة سياسية حيث أقسم أنه بحب الرئيس لكن المسؤلين الذين حوله لا يشعرون بهم .
وكأن المواطن، فى مصر المنسية، يستجدى مسئولى الدولة طلبًا للعطف أو للشفقة .. هكذا كان حديث عم سلامة.
وهذه سيدة تستند على بيت متهالك، لا ترى فيه من مظاهر الحياة سوى بقرة ودجاج يأكل خبزا مكسورًا.
اقتربت منها، وقبل أن أتفوه ببنت شفة أخبرتنى أن الأمراض تحاصرها ولا تجد لها علاجًا، خاصة بعد وفاة زوجها وعائلها الوحيد.
ثم سألتنى هذه السيدة فى دهشة كيف لا يتعبون وهم يشربون من البحيرة التى يصب الصرف فيها؟
لم أجد جوابا فضحكت، وطلبت منها أن تغنى لنا.
كان طلبى غريبًا، إذ أن السيدة امتعضت فى وجهى وقالت:
"أغنى ليه بس ياابنى ... أنت فى عقلك حاجة "
صدقت السيدة البسيطة .. أنا فى عقلى حاجة.
فى جزيرة (العزبى) يبدأ سن الزواج بالنسبة للفتيات من سن الثانية عشرة، ومن تتجاوز الثامنة عشر من عمرها دون زواج فهى عانس فى نظر أهل الجزيرة.
أما بالنسبة للشباب، فيتزوج وهو فى السادسة عشرة، ولا يتأخر عن الثامنة عشر ، ربما لأن أرض الجزيرة خالية يبنى لنفسه سكنًا مستقلاً عن بيت والده، أو يتخذ غرفة فى منزل العائلة .
ولأن الحياة الزوجية هى حياة تعاون، فإن العريس هنا يشترى حجرة أو اثنتين - حسب مقدرته - فيما تحضر العروسة الملابس والصينى وفرش المنزل.
الحياة عند سكان الجزيرة لا تخلو من العمل .. الفقر لا يمنحهم راحة .. حتى فى الأعياد، فهم يتزاورون قليلاً ثم يذهب كل منهم إلى عمله.
هناك فى مصر المنسية ( أقصد هذه الجزيرة) ، ليس أمام السيدات عند الولادة سوى السفر إلى المنصورة أو دمياط ... وطبعًا إذا كان وضع السيدة فى ليلة حالكه الظلمة .. فإن قدرها لن يمهلها لتفرح بولدها ، .. قولوا عليها يا رحمن يا رحيم.
لا تعرف سيدات مصر المنسية شيئًا عن المجلس القومى للمرأة - ولن يعرفوا-
إن حياتهن شاقة بعيدة كل البعد عن الثلاجة أو الغسالة فكل شىء يغسلنه فى البحيرة المالحة مما أدى إلى احتراق جلودهن.
مصيف الأولاد هنا متعة! .. فهم يستحمون فى البحيرة طوال اليوم وقد كساهم اللون الأسود.
تجرأت فطلبت أن أرى بطاقة شخصية لأحد سكان الجزيرة المنسية، فعرفت أن حكوماتنا المتعاقبة والرشيد ،لا تعترف بهم إلى الآن !!!
كيف أسمح لنفسى إذاً بهذا السؤال العجيب ؟
عن مقام الجد الأكبر (العزبى) حدثونى أنه عندما توفى أخذه الأهل ليدفنوه، ولكن الجثمان طارمنهم على المركب القديم الذى كان يُقلّه وأتى به إلى أرض الجزيرة مرة ثانية، ولهذا بنوا له مقامًا كما أنهم يقيمون له مولدًا كل عام فى منتصف شهر أغسطس يجمعون فيه الأموال، ويحضرون أهل الذكر، ويحكون قصص الصحابة وسيرة أبو زيد الهلالى، ومنهم من يقدم النذر عند الشفاء، أوعند تحقيق أمنية.
رحلت من الجزيرة بعد يوم لا ينسى، وحكاية من حكايات مصر المنسية. |