■ هل كان الروائى جمال الغيطانى مغامراً حين أقدم على نشر «ألف ليلة وليلة» فى سلسلة الذخائر التى يرأس تحريرها وتصدرها الثقافة الجماهيرية..؟
لا أقصد المغامرة بمعناها الأدبى والفنى، لكن المغامرة الفعلية والعملية، فهناك من يترصدون الأعمال الإبداعية لإخضاعها لمقصلتهم الرقابية والعقابية، ومن لم يستطع أن يحرك إرهابياً يقتل المبدع أو يحاول قتله، كما حدث مع فرج فودة ونجيب محفوظ، يقوم بتحريك دعوى قضائية أو التقدم ببلاغ للنائب العام، فيحقق مقدم البلاغ شهرة ويقدم نفسه للمجتمع باعتباره رسول الأخلاق الفاضلة، أما من يكون البلاغ ضده فيحصد التجريم إن لم تصبه العقوبة الفعلية.. ولا أظن أن ذلك كان غائباً عن وعى جمال الغيطانى ود.أحمد مجاهد حين أقدما على مغامرة ألف ليلة وليلة، فالليالى تستحق المغامرة بالفعل.
الطبعة التى نشرها الغيطانى مؤخراً، مصورة عن طبعة بولاق الأولى، صدرت سنة ١٢٥٢ هجرية = ١٨٣٥ ميلادية وقام بتصحيحها الشيخ محمد قطة العدوى، وكان أزهرياً يعمل كبير المصححين والمراجعين بمطبعة بولاق، وقد سبق هذه الطبعة المصرية، طبعة كلكتا بالهند، التى بدئ فى إصدارها سنة ١٨١٤ وطبعة «برسلاو» فى ١٨٢٥، لكن الطبعة المصرية صدرت كاملة ومن ثم سبقتها فى الاكتمال،
لذا صارت هى الطبعة المعتمدة بين الدارسين والقراء فى العالم كله، وظلت تصدر فى مصر باستمرار، وعنها صدرت الطبعة التى قرأناها جميعاً فى سن الدراسة، وهى طبعة مكتبة محمد على صبح وأولاده، هذه المكتبة التى لعبت دوراً مهماً فى نشر كتب التراث العربى، غير أن خلافات وصراعات الورثة منذ نهاية التسعينيات أدت إلى إغلاقها، وخارج مصر، ظلت طبعة بولاق هى الطبعة المعتمدة تصدر فى تونس وفى العراق وفى سوريا، وغيرها من البلدان العربية والأوروبية.
لعبت الليالى دوراً متميزاً فى الثقافة الإنسانية والعالمية، وكثيرون لا يعرفون أن صعود أدب أمريكا اللاتينية فى العقود الأخيرة وازدهاره، يرجع فى جانب كبير منه إلى أنه تشبع بليالى ألف ليلة وليلة..
والغريب أن بعض مثقفينا يلهثون وراء أدب أمريكا اللاتينية والواقعية السحرية دون أن يلتفتوا إلى أصله العربى، متمثلاً فى الليالى بالدرجة الأولى. وامتد تأثير الليالى إلى أوروبا وإلى روسيا أيضاً، ولم يقتصر ذلك التأثير على الأعمال المكتوبة، لكنه امتد إلى الأعمال الفنية، ولنتذكر رائعة كورساكوف «شهرزاد»..
فضلاً عن أعمال السندباد، أما فى حياتنا الثقافية، فقد خيمت الليالى على الكثيرين، عنها وضع نجيب محفوظ رائعته «ليالى ألف ليلة».. وقدم طه حسين «أحلام شهرزاد» وتوفيق الحكيم «شهرزاد» وعنها كتب حسين فوزى «السندباد القديم» وغير ذلك كثير.. وقد جلست أجيال أمام الإذاعة المصرية فى شهر رمضان من كل عام تتابع تحويل الليالى إلى مسلسل إذاعى، ملىء بالخيال والحكى الجميل، الذى لا يبتعد عن روح العمل ويرتبط كذلك بواقعنا، وذلك جانب من عظمة الليالى، فهى قادرة على أن ترتبط بواقعنا وقضايانا الحالية والآنية.. القديم منها والمتجدد.
اقتطع بعض السلفيين أو المحافظين الجدد فى مصر، بعض جمل أو سطور من النص الأصلى، وضعوا تحتها خطوطاً حمراء وأضاءوا حولها كل الإشارات الحمراء وأشعلوا وراءها وأمامها النار، مستصرخين النائب العام والمجتمع ليمارس معهم الرقابة على العمل والعقوبة على من قاموا به.. ويبدو أننا سوف نظل نعانى من القراءة الانتقائية للنصوص وللأعمال الإبداعية، والقراءة المراهقة، أو قراءة الشبق، تلك التى لا يرى أصحابها فى العمل سوى بعض كلمات جنسية.
والليالى يا سادة، فى الأصل عمل شفاهى، كان يقال فى الجلسات الشعبية، لذا تجد فيها الوعظ الدينى لحظة وتناول الجنس لحظة، وكل مقتضيات الحياة.. فيها العلم والثقافة والفقه والسياسة والجنس والحكمة.. فيها الرجل والمرأة.. الأمير والغفير.. الغنى والفقير.
وفى كل الآداب الإنسانية يوجد جانب من الجنس، ليس فقط لأنه من ضرورات الحياة والمجتمع، ولكن هذا الجانب يلعب دوراً فى التقريب بين الجنسين فى المجتمع، وقديما حين كان يضعف هذا التقارب كان يظهر بدلاً منه التقارب بين أبناء الجنس الواحد، أى: الشذوذ وما يسمى الآن «المثلية الجنسية»
ولعل هذا يفسر لنا أن كتب الجنس فى التراث العربى والإسلامى كتبها جميعاً فقهاء كبار أو قضاة أعلام.. ومفسرون للقرآن الكريم ومتخصصون فى علم الحديث النبوى.. أى أنهم كانوا عمد الحياة الدينية والإسلام، ولنتذكر تاج العروس ورجوع الشيخ إلى صباه وفن الأيك وغيرها.. ويمكن أن نذكر هنا الإمام السيوطى أكبر علماء ومفسرى مصر المملوكية.. فلديه العديد من الكتب والرسائل فى الجنس الصريح، وضعها ليقاوم فى عصره شذوذاً جنسياً كان قد استشرى فى المجتمع. ومن يتأمل مجتمعنا الآن يلمح بوادر مخيفة فى هذا الجانب علينا الانتباه إليها.
ومثل هذه الأعمال تقرب الجنسين داخل المجتمع والأمة الواحدة، وبسبب التزمت والتضييق على مثل هذه الأعمال، لم يعد النموذج المصرى للجمال هو المسيطر بل استوردنا النموذج الغربى، أى الفتاة ذات الشعر الأصفر والعيون الزرقاء.. لذا تهرع الفتيات إلى صبغ الشعر وتلوين العيون، لأن العيون السوداء والشعر الأسود الذى تتغنى به الليالى وتغنت به الأعمال الإبداعية والفنية صارا محرمين أو معيبين.. فاستوردنا النموذج الآخر. التضييق فى جانب، يخلق لنا كوارث فى جانب آخر، وليت دُعاة التحريم والمصادرة والعقوبة يدركون حجم تأثير ما يقولون به على المجتمع من أذى وضرر.
حينما تواجه دعاة المصادرة والتزمت بذلك كله يسبلون أعينهم فى أسى ويقسمون بأغلظ الأيمان أنهم مع الحرية وضد المصادرة، هم فقط خائفون على المال العام، وأن طبعة «ألف ليلة وليلة» الأخيرة صدرت من المال العام، ومع أن هذه الطبعة لا تتكلف سوى عشرات الآلاف، قد لا تعد على أصابع اليد الواحدة، لكن - فى العموم - المال العام لا ينبغى أن ينفق وفق الأجندة أو الأولويات السلفية.. المال العام ينفق وفق كل فئات المجتمع ويقدم خدمة لهم جميعاً، وينفق كذلك وفق المشترك الأعظم بين الجميع،
ومن ثم فإن ما يردده هؤلاء السلفيون ودعاة الشهرة والذين لم يتحققوا فى حياتهم وعملهم هو باطل وهراء لا يجب الاستسلام له.. المال العام يتكون من عمل الرجل والمرأة.. أنصار التحرر والمدنية ودعاة التقاليد القديمة.. ومن ثم لا يجوز للسلفيين ودعاة الشهرة أن يبرروا محاولتهم الصعود على جثة الأعمال الإبداعية بمقولة الخوف على المال العام، فهى مقولة خاطئة فى ذاتها ومقصود بها التضليل والمصادرة باسم المال العام.
كان جمال الغيطانى مؤسس «الذخائر» ورئيس تحريرها مغامرا بنشر «ليالى ألف ليلة وليلة»، لكنها المغامرة الإيجابية جداً والمحمودة، هو لم يقدم لنا عملاً إنسانياً فذاً فقط، لكنه بتصوير طبعة بولاق قدم لنا وثيقة مهمة، تكشف مستوى الطباعة بمصر فى عهدها الأول، والتدقيق اللغوى وكيف أن كبار المشايخ هم الذين وقفوا وراء عملية التحديث والتعامل بجرأة وبجسارة مع النصوص التراثية، لم يصبهم الذعر منها وكانوا قادرين على انتقاء الأصلح..
ترى هل لى أن أطالب جمال ود.أحمد مجاهد، رئيس هيئة الثقافة الجماهيرية بإصدار طبعة جديدة من الليالى، فقد صدرت الطبعة الأخيرة ونفدت فى أيام.. وعذراً شهرزاد يا ملهمة المبدعين والمبدعات فى العالم كله.. لما يفعله بعض دعاة الشهرة بيننا.. عذراً لم يعرفوا من أنت ولم يستوعبوا حكاياتك.. يا سيدة الحكى فى هذه الدنيا.
نقلا عن المصري اليوم |