بقلم : عبد الحميد صيام
1. البرادعي
لم أشهد في زياراتي المتعددة للقاهرة مثل هذا الحراك السياسي. الجميع يتحدث في السياسة والانتخابات الرئاسية القادمة عام 2011. اسم الدكتور محمد البرادعي يتردد على كل لسان من البقال إلى السائق ومن الطالب إلى الأستاذ، ليس لأنه سيفوز في الانتخابات القادمة بل لأنه أطلق تيارا شعبيا عريضا على استعداد أن يتحدى ويتظاهر ويصرخ ويتعرض للمضايقات لكنه مصمم على إسماع صوته بكل الوسائل المتاحة. لقد سلط البرادعي الضوء على القيود الدستورية التي فصلت على مقاس النظام ليبقى متحكما فيمن يسمح له بخوض الانتخابات ومن سيمنع عنها، حتى كأن هذه القيود، كما قال لي أحد الأصدقاء، وضعت بتلك الطريقة للسماح لشخص واحد أحد للفوز فيها دون ذكر اسمه. لقد أصبحت المعيقات الدستورية ثقافة شعبية عامة لا يمكن إعادة طمسها. الناس هنا ليس لها حديث إلا في السياسة وقانون الطوارئ والفساد المنتشر بشكل لم يعد هناك إمكانية للسيطرة عليه. عنصر الخوف يكاد يتبخر لكن إمكانية تنظيم هذا الحراك ليتحول إلى ظاهرة شعبية عارمة ومنظمة تحت قيادة موحدة ما زال بعيد المنال كما أكد لي أحد خبراء السياسة المصرية الداخلية. لكن المهم، كما قال، أن الناس قد تجاوزا عقدة الخوف والتردد والاعتراض. سائق في منتصف العشرينات قال: منذ فتحت عيوني وأنا تحت ظل هذا النظام، كم أتمنى أن يحدث تغيير في بلدي كي أعرف رئيسا آخر لأستطيع المقارنة بين اثنين على الأقل. كم رئيسا شهدت الولايات المتحدة منذ تولى رئيسنا الحكم؟ ستة، قلت له دون تعليق.
2. الطرق السريعة
كم شوهت هذه الطرق المعلقة جمال مدينة القاهرة. إنها الشر الذي لا بد منه. تكاد بعض الكباري الطويلة أن تدخل غرف النوم. لا أعرف كيف يخلد سكان الزمالك الوجه البحري المطل على النيل- إلى النوم. يمر طريق سريع مرتفع من محاذاة عشرات المباني السكنية، وتستطيع وأنت في السيارة أن تشاهد السكان في غرف نومهم ومطابخهم وصالوناتهم. قد تخبئ الستائر من في البيوت، لكن هل تمنع ضخ ثاني أكسيد الكربون إلى رئاتهم وبيوتهم وعماراتهم التي دكنت ألوانها لكثرة ما تمتص مما تنفثه العوادم. وهل تحجز الستائر أصوات السيارات التي تمر بسرعة جنونية طوال الليل؟ وتخيلوا معي صوت تصادم سيارتين مسرعتين بعد منتصف الليل على الأطفال النائمين في غرفهم على مسافة لا تزيد عن عشرة أمتار من مكان الحادث. لكن هذه الطرق القبيحة المعلقة شر لا بد منه إذ رغم انتشارها في العشرين سنة الماضية وافتتاح مترو الأنفاق إلا أن القاهرة من أكثر المدن ازدحاما وتلوثا في العالم. ومما يزيد هذا الازدحام سوءا حالة الفوضى في قيادة السيارات ومعركة المشاة المساكين مع سيول السيارات ليعبروا الشارع 'بالعافية' رغم أنف السائقين.
3. النهر الخالد
ما زالت الجلسات على شاطئ النيل تحافظ على جمالها ورونقها ورومنسيتها رغم 'تسليع' هذه الجلسات لدرجة ممقوتة. هنا تشاهد أبناء العروبة كلهم يجالسون أصدقاءهم وأحبتهم المصريين وينفثون معا هموم العروبة مع نفث دخان النرجيلة. تمر من أمامك المراكب الصغيرة المزركشة بالأضواء الملونة وبين الفينة والأخرى ترى مجموعة من الناس في مركب يحتفلون ببساطة بعريس وعروس ويتشاركون في الغناء والرقص البلدي على وقع الطبل. تلك أعراس الفقراء التي تعكس المثل العربي الجميل 'على قد فراشك مد رجليك'. أما أعراس الأغنياء فلها عالم آخر قادم من ألف ليلة وليلة. عالم يتميز بمستويات البذخ وإهدار الأموال، حيث يتسابق أصحاب 'أعراس الخمس نجوم' على استضافة الفنانين الكبار للظهور لدقائق في الحفل مقابل مبالغ خيالية تصل إلى مئات الألوف من الجنيهات. حتى إن بعضهم لم يعد يكتفي بظهور عمرو دياب وإيهاب توفيق وإليسا وروبي بل يحضر في طائرة خاصة من لبنان باقة أخرى من الفنانات والفنانين كي يسجل أمام منافسيه أن عرس ابنه أو ابنته 'تشرف' بحضور نانسي عجرم أو هيفاء وهبي أو وائل كفوري.
في كل مرة أجلس على شاطئ النهر الخالد أذكر لأصدقائي أنني كنت منذ الطفولة أتمنى أن أزور مصر وأجلس على شاطئ نيلها وأسمع أغنية عبد الوهاب:' إمتى الزمان يسمح ياجميل، واسهر معاك على شط النيل' وقد تحققت تلك الأمنية في بداية العمر وأنا ما زلت يافعا حيث جلست في كازينو النيل وطلبت من 'الغرسون' أن يسمعنا هذه الأغنية حيث كان الكاسيت ما زال سيد الموقف... وبالفعل شدا عبد الوهاب بصوته الرخيم ' يا هل ترى يا زماني حاسهر مع الحلو تاني' . دمعة انهالت من عيني يومها وظلت تقفز إلى الذاكرة كلما عدت لأشرب من مياه 'ساحر الوجود' ثانية وثالثة وعاشرة. لقد تعلقت بالقاهرة قبل أن أراها لكثرة ما عشت مع شخصيات نجيب محفوظ ويوسف السباعي، ولكثرة ما حضرت أفلام رشدي أباظة وفريد شوقي وشادية وعبد الحليم ولتعلقي بصوت السيدة، ولحبي الجارف للزعيم الخالد الذي كلما تباعد به الزمن تعلق جيلنا أكثر بتلك المبادئ التي أطلقها وأثبتت الأيام صحتها. فبالنسبة لنا ظل ذلك القائد التاريخي رمزا للنزاهة والوطنية والصدق والإخلاص وتحمل المسؤولية والانشغال بهموم الأمة كلها، وكم نحـِنّ إلى ذلك الزمن الجميل كما وصفه نزار:
'زمانك بستان وعصرك أخضر وذكراك عصفور من القلب ينقر'.
4. فلسطين
قضية فلسطين ليست قضية تضامن مع شعب مضطهد بالنسبة للشعب المصري. إنها قضية كل إنسان. إنها قضية داخلية قد تؤدي إلى انفصال الزوجين لو اختلفا على كره الصهيونية والدولة العنصرية التي تجسد تلك الأيديولوجية. مخطئ من يظن أن أحدا يستطيع تزييف مشاعر الشعب المصري. فقضية فلسطين تسكن في ضمير وعقل وقلب كل إنسان شريف ليس له مصلحة مع تلك الدولة المارقة غير الطبيعية المزروعة في قلب الأمة فاصلة جناحيها الشرقي عن الغربي. تفاصيل ما يجري من ممارسات الاحتلال يعرفها الناس عن ظهر قلب: الأسماء، الشوارع، الشهداء، أعداد الأسرى، أسماء السجون،ومن هم الوزراء الإسرائيليون الذين يتسابقون على إطلاق الإهانات للعرب بمن فيهم القيادة المصرية، فضائح سلطة رام الله التي تشتغل 'نوبتشية' (حراس) عند إسرائيل على حد تعبير أحد الزملاء. كل من تحدث عن الجدار الفولاذي على حدود غزة ممن التقيتهم (طبعا ليس من بينهم أحد من الرسميين) ربط القرار بقضية الانتخابات والتوريث مؤكدين أن هذه الإجراءات لن تزيد الشعب المصري إلا التزاما بقضيتهم المركزية وتشديدا للمقاطعة.
إن حملات الردح التي تطلقها وسائل الإعلام الرسمي مرة ضد الفلسطينيين ومرة ضد الجزائر وأخرى ضد قطر أو حزب الله أو سورية وترفع شعارات إقليمية شوفينية بغيضة لا تترك أي أثر على مشاعر الناس القومية بطبيعتها رغم أنف 'الأهرام' و 'الأخبار' و' الجمهورية ' ومن لف لفها. فالضمير المصري حي وغير مشوه ويعرف معنى عمقه العربي وأهمية مصر للعرب وتعلق العرب جميعا بمصر، وأكبر مثل على هذه الحقيقة فشل التطبيع مع إسرائيل على المستوى الشعبي حيث ظلت العلاقات محصورة في فئة محدودة جدا من الطحالب السامة الفاسدة التي آثرت مصالحها الشخصية على مصلحة الوطن والشعب. وهذه فئة معزولة عن الناس مثلها مثل السفارة الإسرائيلية التي تلفظها المدينة وتشعر أنها كابوس مصوب فوق رأسها.
5. أكواخ الفقراء وقصور الأغنياء
كيف يمكن لبشر أن يعيشوا في تلك العشش وعلى السطوح وبين البيوت المهدمة أو المهجورة؟ قال السائق إن هذه الألواح التي صفت على جانبي الطريق السريع الذي يخترق العباسية وغمرة والشرابية ليس إجراء احترازيا بل لتغطية 'المصايب السودا' وحجب تلك المناطق التي يمكن لأي أنسان مشاهدتها من على الطريق السريع . لا أستطيع أن أتخيل أسرة فيها أطفال صغار تعيش في تلك الزواريب والعشش وصفائح القصدير المركبة معا بطريقة توجع القلب. كم في تلك الأكواخ المتآكلة من رجال أحرار 'غلابى' يكدون النهار وآلاء الليل ليكسبوا 'قرشين' ليوفروا الحد الأدنى للأجساد المنهكة كي تبقى على قيد الحياة. كم في تلك الأكواخ المتآكلة من نساء حرات ينزفن عرقا ويتحملن ذل 'الأكابر' ليضمن لفلذات أكبادهن لقمة عيش مغمسة بكثير من الحسرة..... بعد نصف ساعة أو أقل على الطريق الصحراوي نمر من منتجع سياحي تنتشر فيه الفلل الفارهة التي تحاكي قصور بيفرلي هيل. لكل فيلا اسم خاص بها، وبعض الملاك كتب اسمه على مدخل فاخر كأنه قوس نصر. 'أتعرف يا عم ؟' قال السائق الشاب، يصل سعر الفيلا هنا إلى عشرة ملايين جنيه وأكثر. قطعة الأرض هذه بيعت بسعر ضئيل لأحد 'الناس الواصلين'. بعد البيع تم تمديد الخدمات الأساسية إلى المنطقة على حساب الحكومة تضاعف السعر مئات المرات فأصبح هذا الشخص 'بليونيرا' بين عشية وضحاها... وأمثاله كثيرون ولو أردت أن أحدثك عن الفساد ونهب المال العام، رغم صغر سني، لاحتجنا ساعات وساعات.
كان الله بعوننا، فالله وحده هو الذي يحمي مصر لأنها مفضلة لديه وذكرها بالإسم في القرآن. قلت لمحدثي، الظلم يا أخي من صنع الإنسان. نقبل أقدارنا إذا كان القهر جاء من الطبيعة كالزلازل والبراكين والعواصف، ولكن كيف لأمة بلغت 'من العلياء كل مكان' أن ترضخ لمثل هذا القهر المزدوج من الأعداء الخارجين ومن وكلائهم المحليين. أقسم لك إنني أرى التغيير للأحسن قادم من جيلكم- جيل الإنترنت والاتصالات، وهذا التغيير الحقيقي والحضاري لا يمكن إلا أن يبدأ من مصر لتعود إلى دورها التاريخي العريق لقيادة هذه الأمة نحو العزة والكرامة والانتصار. الشيء المحزن، قلت لمرافقي، أنني قد لا يكتب لي أن أعيش حتى أرى تلك الساعة، وهي قادمة 'لا ريب فيها'.
' أستاذ جامعي وكاتب مقيم في نيويورك |