بقلم : نسيم مجلي
ويعلق الدكتور أنور لوقا على هذا بقوله:
" لذا استعصى على خصوم لويس عوض – الذي أهمل بدوره التاريخ الاقتصادي – أن يقيسوا معه في مجال السياسة وحدها جرأة الدور الذى أداه يعقوب , فى مرحلة التحول التاريخي الداهم التي اجتازها , وأن يعترفوا بفضل هذا الرجل إذ اختط فى معمعة تلك الأحداث خطة مصر كأمة متماسكة. فلم ترد فى مشروع يعقوب اطلاقا كلمة "قبطى" وانما كانت مصر- أرض الوطن شغله الشاغل , بشخصيتها الأصيلة , و ثروتها , و موقعها التواصلى بين الأمم , دون ممالاة للترك و المماليك و الفرنسيين و الإنجليز المتصارعين عليها "كالكلاب النوابح"
ومن المؤكد أن "قبطية" يعقوب – التى جلبت عليه اللعنات حتى اليوم – كانت نعمة كبرى , أنارت وعيه و فطنته , ولولاها لفقد وضوح الرؤية و تخبط ..لقد أدرك إدراكاً داخلياً- وقد انتبذ فى طليعة الأقلية المصرية الساهرة مكانا ضمن له استقلالاً و نفوذاً معاً - إن الأوضاع تتحرك وأن موازين القوى تتغير, وأن عهد اغتصاب الترك و المماليك لبلاده قد انتهى , وفى محل السلطة الذى خلا ستحقق مصر وظيفتها الفطرية و الرئيسية اللازمة للجميع, ألاوهى التوسط بين الجنوب و الشمال و الشرق و الغرب. سيقولها جمال حمدان فى شرحه الجغرافى للموضع و الموقع , وقد اثبتت الأيام أن تخطيط يعقوب السياسي ما كان سوى ارهاص بالحياد الإيجابي المقبل , الذى ستبتدعه مصر, و بمبدأ عدم الانحياز الذى ستنتزعه مصر.
لعل انحسار بعض العقليات دون هذا التقدير هو الذى يصدمها بظهور تلك الزعامة قبل أوانها. غير أن المؤرخ الحق هو الذى يصل بين العصور و الدول و التيارات."
بقيت هناك نقطة واحدة تحتاج الى توضيح بالنسبة لمشروع الاستقلال الذى حمل لواءه يعقوب وشرحه لقائد السفينة الانجليزية قبل موته المفاجىء، اذ حاول بعض المتطرفين التشكيك فى نسبته الى يعقوب بدعوى أنه من تفكير سكرتيره لاسكارس الذى كان يقوم بالترجمة ، وهو أمر مضحك يدل على تحكم عقدة الخواجة فى هذه العقليا ت فحتى الاستقلال لابد أن نستكثر التفكير فيه على أنفسنا، مع أن كلام شفيق غربال واضح فى هذه النقطة بالتحديد إذ يقول(ص ):
"يحق لنا أن نقرر أن كلمة الوفد المصرى والأدلة التاريخة والفلسفية من أفكار لاسكارس وأن يعقوب لم يقرر إلا الفكرة الاستقلالية " وهذا يكفى ، فالفكرة الاستقلالية هى لب الموضوع كله، وهى ترتبط ارتباطا عضويا بتكوين الفيلق القبطى الذى جرى التفكير فيه من أجل حماية استقلال مصر ضد العثمانيين والمماليك بعد جلاء الفرنسيين والانجليز عنها. ومن هو لاسكارس هذا حتى ينسب اليه مشروع استقلال مصر، إنه مجرد تابع ليعقوب يقوم بدور المترجم بينه وبين القبطان جوزيف إدموندز قائد السفينة الانجليزية -التى كانت تقل يعقوب وأتباعه الى فرنسا- ، وهذا الموقف يوضحه لنا الدكتور أنور لوقا فى كتابه (ص 95 ) حيث يقول:
"ويبدو التناقض بين الرجلين من أول وهلة فى الرسالة التى أرفقها جوزيف إدموندز بالوثيقة. فهو يشهد بمهابة يعقوب ورجاحة شخصيته ونفوذه ، وجدية محادثاته، بل وبحرصه على إبلاغ موضوعها الى القائد العام ومنه الى الحكومة البريطانية،وعلى تعهد له بعدم إفشائها تحسبا لعواقب الأمور. أما عن لاسكارس فيقول جوزيف ادموندز :" إنه ذو عقلية متحفزة الخيال،وأظنه من أهل البيمونت (شمال إيطاليا ويقال إنه كان من فرسان مالطة الذين غادروا الجزيرة مع بونابرت) ولم أفلح فى أن أتبين هل هو عضو من أعضاء الوفد أم أن مهمته مقصورةعلى السكرتارية والترجمة "
ويعلق أنور لوقا على هذا بقوله "مقابل الثقة فى يعقوب ومسئولياته، يثير لاسكارس حيرة جليسه واستفهامه "لكنه لم يثر حيرة المتعصبين المصريين الذين فضلوا أن ينسبوا مشروع الاستقلال الى هذا المغامر المالطى حتى لاينسب الى يعقوب حنا القبطى.
وكم ذا بمصر من المضحكات .ولكنه ضحك كالبكا .
لحسن الحظ أن هذه المضحكات لم تغرقنا جميعا فهناك من الرجال من يشهدون للحق وفى مقدمتهم المؤرخ الرائد محمد شفيق غربال والكاتب الصحفى الكبير محمد فهمى عبد اللطيف الذى حقق تاريخ الجبرتى و الذى كتب فى جريدة "البلاغ" (22-9-1947) يقول" إن يعقوب كان أول سياسى مصرى فكر فى جعل المسألة المصرية مسألة دولية على أن تستقل مصر استقلالا تاما عن الحكم العثمانى وأن تكون باستقلالها هذا واسطة لكبح أطماع فرنسا وانجلترا وهما الدولتان اللتان كانتا تتصارعان لتوطيد النفوذ فى مصر والبحر المتوسط "
وفى نهاية عرضنا لهذه الآراء الهامة والمختلفة لابد أن نعود الى المؤرخ الوطنى الأمين الذى اكتشف وثائق هذا المشروع ضمن سجلات وزارة الخارجية البريطانية فأخرجها الى الضوء ليكشف المستور من حقائق تاريخنا فى فجر مرحلة الاستقلال، هذا المؤرخ الكبير هو :
الدكتور محمد شفيق غربال، مؤسس مدرسة التاريخ الحديث بالجامعة المصرية ، التى عمدت الى تمصير دراسة التاريخ عن طريق التدريس باللغة العربية ، وكذلك بتوجيه الاهتمام إلى دراسة تاريخنا الوطنى الحديث.
تخرج محمد شفيق غربال فى مدرسة المعلمين العليا سنة 1915 وذهب إلى انجلترا لدراسة التاريخ حيث حصل على ليسانس الآداب من جامعة ليقربول سنة 1919 وعلى درجة الماجستيرفى التاريخ الحديث من جامعة لندن فى سنة 1924 عن بحث عنوانه " بداية المسألة المصرية وظهور محمد على "وقد نشر هذا البحث فى كتاب سنة 1928 وكما يقول الدكتور عزت عبد الكريم " هو أول عمل علمى أصيل فى تاريخ مصر الحديث لأستاذ مصرى معتمد على وثائق أصلية بلغات مختلفة لم يسبق نشرها"
وقد أشاد المؤرخ الكبيرأرنولد توينى فى المقدمة التى كتبها لهذه الرسالة بالصفات التى يتحلى بها شفيق غربال والتى تجعل منه مؤرخاً مرموقاً.
وعند عودته عين أستاذاً للتاريخ بمدرسة المعلمين العليا ومالبث أن أختير أستاذابكلية الآداب جامعة القاهرة، فأتيحت له الفرصة للتجديد والتطوير لمناهج دراسة التاريخ وتوجيه التلاميذ ويقول الدكتور احمد عزت عبد الكريم: (1)
كانت " المدرسة" الرسمية مدرسة المؤرخين الأجانب من فرنسين وانجليز قد اتجهوا إلى كتابة تاريخ محمد على واسماعيل ، ورأى شفيق غربال أن يوجه تلاميذ مدرسته إلى البحث فى تاريخ الأمة المصرية والمجتمع المصرى ، كتاريخ التعليم والصناعة والطباعة والتجارة والفلاح المصرى إلخ ووجههم إلى الاهتمام بجمع المادة التاريخية الأصلية من مصادرها فكانوا الرعيل الأول من طلاب البحث المصريين اللذين ارتادوا دور الوثائق فى مصر ، ونقبوا فى محتوايتها ، وبذلك عاونوا أكبر معاونة فى تنظيمها وتنسيقها وتيسيرها للباحثين من بعدهم – وبذلك وضع شفيق غربال وتلاميذه الأساس لبناء التاريخ المصرى القومى فى العصر الحديث على أسس سليمة.
درس شفيق غربال الأصول التاريخية لتطوير مصر فى القرن التاسع عشر فكتب بحثه العميق " مصر على مفرق الطرق " وهو تحقيق لنص مخطوط من أيام حملة بونابرت على مصر يحوى اجابات حسن أفندى كبير أفندية الرزناقة على أسئلة وجهها إليه بعض علماء الفرنسيين عن أحوال مصر على عهد العثمانيين . وقد قدم فى هذا البحث نموذجاً لنشر النصوص التاريخية نشراً علمياً محققا وفتح به ميدان البحث فى تاريخ مصر العثمانية.
كما درس غربال ظاهرة التقاء الشرق بالغرب أثناء الحملة الفرنسية على مصر ، وما صاحبها من تفكير فى مستقبل مصر السياسى على أساس الاستقلال ونشر هذه الدراسة بعنوان
" الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس ومشروع استقلال مصر فى سنة 1801 " الذى نشرته دار المعارف سنة 1932 بعد ذلك نشر كتابه " محمد على " فى سلسلة أعلام الإسلام . والكتاب ليس ترجمة لسيرة محمد على ، لكنه بحث عميق فى أصول المجتمع المصرى كما كان يعيش فى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر ، ثم تقصى دقيق لما طرأ على هذا المجتمع من تغيرات واسعة خلال النصف الأول من القرن الأخير
استمر شفيق غربال مثايراً على التدريس والبحث والمحاضرة والاشراف على رسائل طلابه لم تصرفه عن ذلك عمادة كلية الآداب حين تولاها سنة 1939 و لا المناصب الادارية التى دعى إلى النهوض بأعبائها فى وزارة المعارف، ثم وزارة الشئون الاجتماعية (بين سنتى 40-54 مستشاراً فنياً لتعليم فوكيلا للوزارة وظلت الأستاذية هى السمة الأصلية فيه ، لم تكن طابع حياته العقلية وانما كانت حياته الشخصية أيضاً فكان يتناول المسائل التى تعرض عليه فى مناصبه الادارية بالحلم والأناة والتواضع والحرص على الحق والآنفة من التعصب.
وظل شفيق غربال معنياً بالمسألة المصرية التى بدأ حياته العلمية بالكتابة فيها ، وكانت هذه المسألة قد تحولت من مجرد صراع بين الدول الأوربية الكبرى على السيطرة على مصر إلى كفاح وطنى قام به المصريون ضد الاحتلال البريطانى ما لبث هذا الكفاح أن تحول إلى السعى لحل القضية الوطنية بالوسائل السلمية ، فكانت المفاوضات التى بدأت من 1920 حتى انتهت 1954 بجلاء الانجليز عن مصر 1954بع قيام ثورة يوليو.
واتجه مؤرخناً إلى دراسة المسألة المصرية فى مراحلها الأخيرة وذلك فى مقدمة كتابه " تاريخ المفاوضات المصرية البريطانية " الجزء الأول 1884-1936 تناول فيها طائفة من الأحداث التى توالت على البلاد ، كما تناول طائفة من الرجال ، اللذين شاركوا وكانوا لا يزالون يشاركون فى الحياة العامة ، ولم يمنعه هذا من التصدى للحكم على هذه الأحداث وهؤلاء الرجال ،لا حكم رجل السياسة – فهو لم يكن قط رجل سياسة – وانما حكم المؤرخ الباحث عن الحقيقة ، فجاء كتابه هذا – الذى منح جائزة الدولة – نموذجاً لكتابة التاريخ المعاصر فى تقصيه للمادة ، وقدرته الفائقة فى تأليف الصورة المركبة ، الشجاعة فى الحكم ، والاخلاص للحق وحده"،وهذه الصفات ذاتها هى التى تجلت فى تناوله لتاريخ المعلم يعقوب حنا ومشروعه لاستقلال مصر.
( لمزيد من المعرفة عن شفيق غربال راجع المجلة التاريخية العدد الحادى عشر 1943) |