أقمت فى إنجلترا سنوات للحصول على درجة الدكتوراه.. رأيت أشياء تدعو للإعجاب، وأخرى.. تدعو للغيظ.. أذكر لكم منها:
كانت أول صدمة حضارية فى أول يوم لوصولى هناك.. هى اتصال تليفونى بينى وبين جون سونى John Swinny أستاذ المسالك البولية فى جامعة نيوكاسل، والذى سأعمل معه..، المكالمة لم تأخذ ثوانى..! قال: هالو دكتور السيسى.. فى انتظارك غداً الساعة ١١ صباحاً.. باى باى..! ووضع السماعة.. والسماعة مازالت فى يدى.. لم أنطق بكلمة! عرفت أن التليفون.. للعمل.. لا لقتل الوقت!
قص علىَّ زميلى دكتور عبدالله أبوريا.. كيف فقد وظيفة مهمة.. لأنه تأخر عن موعد اللقاء خمس دقائق، وحين دخل عليهم قائلا صباح الخير.. كان الرد: كانت صباح الخير!
It was Good Morning!
كان موعد المقابلة ٩ صباحاً.. فقابلهم تسعة وخمس دقائق!
وفى لقاء مع العالم آلان روز لترتيب إجراء تجارب على جولد هامسترز (حيوانات صغيرة) لإذابة حصوات المسالك البولية فى الإنسان، أخذ لى موافقة فى دقيقة بالتليفون من جمعية الرفق بالحيوان لإجراء هذه التجارب، كما رتب لى بناء حظيرة فى حديقة المستشفى الذى أعمل به فى كمبردج، وحين سألتنى السكرتيرة: متى تريد هذه الحظيرة حتى تبدأ تجاربك؟ قلت لها: ليس أكثر من أسبوع، ابتسمت ابتسامة خافتة لم أعرف معناها إلا لما عرفت أن الحظيرة تم بناؤها فى ٣ ساعات..! قلت فى نفسى: ما ننجزه فى سنة.. ينجزه هؤلاء الإنجليز فى يوم!
دُعيت للعشاء عند أسرة إنجليزية صديقة.. فأخبرونى أن طفلتهم - آن - عشر سنوات - حكمت لها المحكمة بعشرين ألف جنيه إسترلينى... تعويضاً عن خدوش طفيفة أصابت وجهها وهى بجانب والدها فى السيارة بسبب حادث تصادم! وحين سألت الأم: وماذا قالت آن ANN حين عرفت بالتعويض؟
نظرت إلىَّ الأم فى دهشة شديدة وقالت: بالطبع لن نخبرها بذلك إلا حين تبلغ سن الرشد! فلما سألت: لماذا؟ قالت الأم: لسببين، الأول حتى لا تحس بأنها أفضل من زميلاتها، فالشعور بالاستعلاء مدمر تماماً كالشعور بالدونية، والسبب الثانى.. هو أنها حين تكبر..، من يريد الزواج منها.. يتقدم لذاتها، لا لمالها!
قلت فى نفسى.. هؤلاء القوم يربون أولادهم بطريقة مختلفة عنا!
وفى خطبة سياسية لمستر ويلسون رئيس الوزراء، قذفه أحدهم ببيضة فى وجهه.. فسالت على وجهه وملابسه، وفى المساء استضافه الـT.V... وسألوه عما حدث فقال: إنه واحد من أعضاء حزب المحافظين! فلما سأله المذيع: ما الدليل على ذلك؟ قال مستر ويلسون: السنة الماضية قذفنى واحد من هذا الحزب ببيضة.. بنفس القوة، ومن نفس المسافة، كما أنه كان لها نفس الطعم!! برود إنجليزى يغيظ!
أما إدوارد هيث رئيس الوزراء بعد ويلسون، فقد قذفته واحدة بجردل صغير ملىء بالحبر على وجهه وبدلته البيضاء، حققوا معها، وأفرج عنها بعد ساعتين من اعتدائها على رئيس الوزراء، وفى المساء استضافها التليفزيون، وسألها المذيع عن السبب؟ قالت: لأنه رئيس وزراء ضعيف، ويريد أن يُدخل إنجلترا فى السوق الأوروبية المشتركة، وهو لا يصلح أن يكون رئيساً لوزراء إنجلترا!
قال المذيع: ستحاكمين بعد أسبوع وستكون العقوبة «شهر حبس»... هذا هو القانون..! هل تعرفين ذلك؟
قالت: نعم أعرفه.. وسأدفع ٤٠ جنيهاً غرامة تعويضاً عن بدلته التى أتلفتها بالحبر له! لقد أخبرنى المحامى بذلك قبل أن أقذف رئيس الوزراء بالحبر الأسود! سألها المذيع: هل تعتذرين لإدوارد هيث إذا تنازل عن محاكمتك؟
قالت: لا.. بل أعتذر فقط. إذا وعد بعدم دخول إنجلترا السوق الأوروبية المشتركة!
أما حضورى لجلسات مجلس العموم البريطانى.. وما كان يحدث فيه... فحدِّث عنه فى مقالة أخرى ولا حرج! كنت أخرج من مجلس العموم.. وأنا أضرب كفاً بكف..! وكنت أقول لنفسى: نستورد منهم السلع.. والعلوم، ولا نستورد نظام الحكم الداخلى منها..!!
صحيح أنها دولة كانت مستعمرة.. بل وشريرة فى شعارها «فرق تسد...» قسمت الهند.. إلى هند وباكستان.. وزرعت فى مصر حسن البنا حين وجدت المد الوطنى كاد يكتسحها.. ولكن.. لهم من نظام الحكم الداخلى.. ما يغفر لهم بعض الذنوب.
نقلا عن المصري اليوم |