بقلم: نذير الماجد
لأن اللغة ليست محايدة تماماً وليست دائماً مجردة عن القيمة، فإن التوصيف المرتبط تلقائياً بتأثيرات القيمة إنما هو قدر لا مفر منه حتى وإن كانت آليات الفرز منزهة عن التحكيمات القيمية.
اللغة لها طبيعة منحازة ومهما حاولت أن تبتعد عن أي حكم قيمي ستقع في النهاية في فخ المفاضلة، لكنها مع ذلك ستكون وفقاً لمعايير محايدة بالضرورة، هكذا نجد كيف تمتلك اللغة رصيداً غنياً من المفردات للتعويض وللحد من حالات الفرز القيمي المرتكز على أساس معايير منحازة، فما أن ترتبط المفردة بحكم قيمي منحاز حتى يتم تجاوزها بمرادف لغوي أكثر حياد وموضوعية ضمن علاقة جدلية تربط اللغة بالأدلجة (بالمعنى اللغوي المباشر). هذه العلاقة هي التي تخفف من أثر الصدمة التي تنجم عن ثنائيات كالمعارضة والموالاة، الأقلية والأكثرية، الممانعة والموادعة، وغيرها من ثنائيات نجد لها رواجاً هذه الأيام في واقعنا السياسي.
ولعل الأحداث الأخيرة في بلدة العوامية قد ساهمت إلى حد كبير في تفاقم وتيرة الفرز القائم على أساس "مانوي" يشيطن طرف ويمثلن آخر، يضفي على أحدهما صفة ملائكية مفرطة فيما يجعل من الآخر أسوأ من الشيطان، لكي ترتبط في النتيجة ثنائية كالمعارضة والموالاة كان يجب أن تظل مجرد عنوان يعكس التفاوت السياسي الموضوعي بتصنيفات قيمية تقترب من التخوين تارة ومن التنزيه الكامل والمثلنة تارة أخرى، ولن تكون النتيجة سوى مزيداً من الإنحسار للمنطقة الرمادية، للرؤية الوسطية والمعتدلة... وبالتالي ليست هذه الذهنية سوى وعياً زائفاً تتسم به كل أيديولوجيا.
ليست المشكلة في غياب المنطقة الرمادية بقدر ما تكمن في ذهنية التبخيس والاستباحة، التبخيس الذي يغيب كل الجوانب المضيئة في الطرف الذي يراد له أن يصبح بمثابة أقنوم للشر، لكي يتسنى قمعه واستئصاله، فالذهنية الأيديولوجية والتي هي غير قادرة على الحياد والنظرة الموضوعية هي ذهنية قمعية في الأساس، إنها شكل من أشكال الاستبداد ليس إلا.
إن كل وعي أيديولوجي ليس قادراً على إضاءة الواقع، لأن الأيديولوجيا بالتعريف كما يقول جورج طرابيشي هي ذلك الحجاب الحاجز بين الوعي والواقع، بدليل المآزق التي تقع فيها كل فئة غارقة في مقاربة الأشياء وفقاً للمصالح الضيقة، وما التخبطات وضبابية الرؤية التي نجدها هذه الأيام بخصوص أحداث العوامية التي هي بدورها حلقة من حلقات القطيعة الناجمة عن انسداد كل منافذ الاصلاح والتغيير في الواقع السياسي إلا أبسط دليل على ضمور وانحسار الوعي السياسي "الموضوعي" لصالح الأيديولوجي والمنحاز.
هذه الأحداث التي جاءت عقب تراكمات مستمرة كانت سبباً كافياً لإنتاج اصطفافات بدأت تتكشف شيئاً فشئياً، لكن التصنيف وإطلاق المسميات ليست عملية لا تكتنفها المخاطرة، إنها ليست عملية سهلة على الإطلاق، ولهذا السبب بالضبط ولكي نتجنب الوقوع في التصنيفات التعسفية يفضل الولوج مباشرة في رسم الملامح والحيثيات ضمن جرد لا يمكن أن يكون جامعاً شمولياً قبل الاضطلاع بأي تسمية أو تصنيف.
في هذه الأيام بدأ يتشكل أكثر من تيار كاستجابة منفعلة أو فاعلة لتلك الأحداث الدرامية التي وقعت في بلدة صغيرة يقطنها البؤس والفاقة، الأحداث التي على إثرها صدرت ثلاثة بيانات يمكن اعتبارها كتجليات لهذه التيارات الوليدة والتي كان لها بذورها وارهاصاتها قبل الحدث: بيان الستين وبيان الأكثر من ألف وبيان ثالث أصدره رمز ديني بمفرده هو الخطيب المشهور السيد منير الخباز، ومع أن هذه البيانات ليست كافية تماما لتكوين تصور متكامل حول هذه التوجهات لأنها لا تعكس بشكل كامل رؤيتها السياسية إلا أن بإمكاننا أن نؤسس عليها انطباعاً أولياً يساعدنا على إدراك الملامح الأساسية لهذه التيارات للتوصل لتصور أدق للحراك المجتمعي الراهن.
أولاً: بيان الستين الذي كشف عن تحالف بين توجهات كانت متباينة حتى الأمس القريب، وهو ليس بياناً تأسيساً بقدر ما هو بيان إعلان لتيار بدأت ملامحه تتوضح. وهو تيار يصفه مناوؤه بالتخاذل إلى جانب لائحة طويلة من التوصيفات التعسفية، يميل هذا التيار إلى تبني خطاب تصالحي ترضوي مع حرصه على نيل الحقوق الأساسية ولكن ضمن دائرة المتاح واللعبة الداخلية بكل قواعدها، ما يجمع بين كل الموقعين هو الحرص على إلتزام الهدوء في التعاطي مع الخلل، لكن ثمة تباينات عديدة لا تقتصر على التوجه الفكري وحسب، بل أيضاً على مجمل النشاط السياسي والجدية في التعاطي مع التحديات الوطنية.
الشيخ الصفار "أحد الموقعين" يمثل توجهاً محدداً له خبرته السياسية الطويلة وخطابه الوحدوي الذي يشيد به الكثيرون، خطاب ليس انهزامياً كما يرى البعض الآخر ولكنه خطاب واقعي من حيث إدراكه وإلمامه بقواعد اللعبة في الداخل، هذا الإدراك المقترن بوعي وخبرة طويلة يكسبه حس المناورة واستغلال كل الهوامش المتاحة لنيل الحقوق وتحقيق المطالب، لكن السمة الأبرز في اعتقادي هي دأبه المستمرعلى ترسيخ واقع انفتاحي متسامح وتجاوز الحالة المرضية للإنكفاء على الذات واجترار الألم كما هو يعبر.
لكن المفارقة أن بيان الستين يضم توجهات تكاد تكون مناوئة لأي توجه انفتاحي يتبناه الشيخ الصفار، وهو الأمر الذي جعل البعض يعتبر البيان جامعاً لخليط يضم توجهات متعددة تمثل أطياف فكرية مختلفة، فالبيان الذي ضم وجوها تمثل ذلك التحالف العريق بين الرموز الدينية وأصحاب النفوذ "أو أهل العوائل حتى لا أقول الإقطاع" ضم أيضاً رموز بارزة في الحركة الوطنية التي اكتسحت الواقع في الستينات من القرن الماضي.
ثانيا: في الوقت الذي يؤخذ على بيان الستين نخبويته العالية وتجاهله لضرورة إشراك الرأي العام نجد أن أبرز سمة يتسم بها بيان "الأكثر من ألف" هو اهتمامه بأوسع شريحة مجتمعية. إن السمة الأساسية لهذا البيان والذي يمكن أن يؤسس هو الآخر لتيار متمايز تماماً هي إشراكه للمواطنين -وهم الذين بوسع الكثيرين وصفهم بالعوام- وهذا يدل على أن هذا التيار قد أدرك أهمية حضور المواطن العادي في صنع الحراك السياسي، لأن تغييبه هو الذي يمثل في الحقيقة إختطافاً للقضية واحتكارها، وهو يعكس نفساً ديموقراطياً جميلاً جداً كم نحن بأمس الحاجة إليه في واقع مشوه يسود فيه القمع والاستئثار بكل شيء!.
ومع تأكيده على مبدأ الحوار خياراً وحيداً وتركيزه على نبذ العنف بكل أشكاله وتمظهراته ينحى البيان نحو فضح حدة الانتهاكات التي تتعرض لها الأقليات المذهبية، أي أن له جنبة حقوقية أتاحت مجالاً أوسع لإشراك شريحة تدعو وتناضل من أجل دولة الحقوق والمؤسسات، وإذا ما حاولنا استكشاف وقراءة ماوراء الخطاب سنجد أن أبرز ملامح هذا التيار يتمثل في السعي لحل نهائي وحاسم لمسألة الأقليات ومنها طبعاً الأقلية الشيعية.
وهذا ما يمثل عاملاً مشتركاً أدى إلى وجود تعاطف واضح من قبل رموز معارضة تقطن في "ما وراء الحدود" أي خارج البلاد. وهذا هو بالضبط ما يشكل بؤرة التماهي والتلاقي بين الداخل والخارج، لأن المعارضة، أي معارضة، يجب أن تمثل جزءاً أساسياً في النشاط السياسي، إلا أنه في كل العالم العربي "هذا العالم الإستثنائي" لا يمكن لأي معارضة أن تفصح عن ذاتها إلا في منفى اختياري، ولكن ضرورة التنسيق والتشاور مع الداخل ومحاولة ايجاد قاعدة أو حامل اجتماعي وغيرها من أشياء هي التي تمنح الشرعية للمعارضة التي يجب أن تتحلى بخطاب سياسي واقعي لا يحلق في الفضاء ولا يطالب بالمستحيل، وهو الشيء الذي يعتبر مأخذاً أساسياً على خطاب المعارضة في الخارج، كالتلويح بالإنفصال الذي وجد له بعض الصدى في الداخل رغم أنه مطلب غير واقعي على الإطلاق، إلا إذا كان بمثابة ورقة ضاغطة يتم التلويح بها للتذكير بوجود فئة مضطهدة تقطن فوق أطنانٍ من الذهب الأسود.
ثالثاً: يرى الكثير من المتابعين للشأن المحلي أن لإصدار السيد الخباز لبيان مستقل يمثل دليلاً واضحاً على وجود نية للمغايرة، نية جادة تسعى لرسم ملامح تيار جديد لا هو مع هذا ولا مع ذاك، لكن الملفت في موقفه هو حرصه على لغة على قدر كبير من الحياد، كان يحاول أن لا يقع في فخ الإدانة بشكل اعتباطي. فيما تتجلى السمة الأساسية المضيئة جداً في دعوته للتنسيق بين جميع الفاعلين الإجتماعيين تلافياً لأي حالة احتكار أو اختطاف للقرار السياسي المحلي ولكن هي دعوة ناقصة طالما اقتصرت على رجال الدين ولم تتسع أكثر لتشمل ممثلي جميع الإتجاهات الفكرية بما فيها التيارات الفكرية الوليدة!
لكن الشيء الجديد في هذا التوجه للخباز هو النزوع الواضح جداً للخروج من شرنقة التحازب الطائفي المقيت، نلمس ذلك في دعوته للمواطنين السنة لزيارة المساجد والحسينيات في مناطق الشيعة ولعدم الإصغاء إلى التيارات الإقصائية السلفية والتي لها ما يماثلها في نزعة الإقصاء ذاتها في الواقع الشيعي نفسه.
هذه الإطلالة السريعة تكشف عن أمر يمثل لدى الكثيرين بارقة أمل في تجاوز كل تلك الإصطفافات البدائية التي اكتسحت الواقع منذ بداية الثمانينات أي منذ انتشار تيار الإسلام السياسي، فالملاحظ أن هذه الإصطفافات لم تعد ذات منطلق مرجعي كما كان سائداً في العقود الماضية، حيث كما يعلم الجميع كانت المغايرة والتمايز على أساس مرجعي، "المرجع يمثل قطب الرحى لكل تيار" ولكنا نشهد الآن تحولاً في الوعي السياسي أدى لبروز بوادر لاصطفافات جديدة ذات مضمون سياسي أكثر، وإذا ما كتب لهذه البوادر النمو والنضج فلا بد أن تصل في نهاية المطاف لبلورة خطاب وطني "زمني" معلمن وإذا ما شئنا المصارحة أكثر وهو ما يشكل بالنسبة للكثيرين أملاً وطموحاً يلامس وجدانهم، بإمكان هذه البوادر أن تشكل إرهاصات لتعددية سياسية تسع الوطن كله، وحينئذ "فقط" ستختفي كل النزعات الإنفصالية!! |