بقلم : لطيف شاكر
اعتقد المصريون القدماء أن يوم شم النسيم هو بداية خلق العالم ، ولأن الحياة في اعتقادهم بدأت في الماء فقدسوا أكل الأسماك في يوم إشراق الحياة "شم النسيم" ، وكذلك البصل الذي ارتبط في أساطيرهم القديمة بقدرته علي طرد الأرواح الشريرة ، فالتاريخ يؤكد أن الفراعنة هم أول من احتفل بعيد الربيع المعروف بشم النسيم .
وهو واحد من أعياد مصر القديمة ، و يعود الاحتفال به إلى ما يقرب من خمسة آلاف عام ، وقد سمي بهذا الاسم نسبة للكلمة الفرعونية "شمو"، وهي كلمة أصلها هيروغليفي قديم ، ويرمز شم النسيم إلي بعث الحياة ، وكانت أعياد الفراعنة ترتبط بالظواهر الفلكية، وعلاقتها بالطبيعة، ومظاهر الحياة؛ ولذلك احتفلوا بعيد الربيع الذي حددوا ميعاده بالانقلاب الربيعي، وهو اليوم الذي يتساوى فيه الليل والنهار وقت حلول الشمس في برج الحمل .
ويحل عيد الربيع في الخامس والعشرين من شهر برمهات ـ حسب التقويم القبطي ـ ، وكان قدماء المصريين يحتفلون بذلك اليوم احتفالاً رسمياً كبيراً ، فكانوا يجتمعون أمام الواجهة الشمالية للهرم قبل الغروب ليشهدوا غروب الشمس، فيظهر قرص الشمس وهو يميل نحو الغروب مقتربًا تدريجيًّا من قمة الهرم، حتى يبدو للناظرين وكأنه يجلس فوق قمة الهرم ، و تخترق أشعة الشمس قمة الهرم، فتبدو واجهة الهرم أمام أعين المشاهدين وقد انشطرت إلى قسمين .
ويخرج المحتفلون بعيد شم النسيم في جماعات إلى الحدائق والحقول والمتنـزهات؛ ليكونوا في استقبال الشمس عند شروقها، وقد اعتادوا أن يحملوا معهم طعامهم وشرابهم، ويقضوا يومهم في الاحتفال بالعيد ابتداء من شروق الشمس حتى غروبها، وكانوا يحملون معهم أدوات لعبهم، ومعدات لهوهم، وآلات موسيقاهم، فتتزين الفتيات بعقود الياسمين (زهر الربيع)، ويحمل الأطفال سعف النخيل المزين بالألوان والزهور، فتقام حفلات الرقص الزوجي والجماعي على أنغام الناي والمزمار و القيثار، ودقات الدفوف، تصاحبها الأغاني والأناشيد الخاصة بعيد الربيع، كما تجري المباريات الرياضية والحفلات التمثيلية .
كما أن الاحتفال بالعيد يمتد بعد عودتهم من المزارع والمتنـزهات والأنهار إلى المدينة ليستمر حتى شروق الشمس سواء في المساكن حيث تقام حفلات الاستقبال، وتبادل التهنئة أو في الأحياء والميادين والأماكن العامة حيث تقام حفلات الترفيه والندوات الشعبية .
ومن ذلك الوقت وإلي الآن والمصريون يحتفلون بعيد شم النسيم يوم الاثنين التالي مباشرة ليوم الأحد الذي يوافق عيد الفصح وفق تقويم الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية .وقد تم تحريف الاسم بمرور الزمن حيث أضيفت إليه كلمة "النسيم" لارتباط هذا الفصل باعتدال الجو، وطيب النسيم، وما يصاحب الاحتفال بذلك العيد من الخروج إلى الحدائق والمتنزهات والاستمتاع بجمال الطبيعة .
فسيخ وبيض وحمص
ومن أهم الأطعمة التي يتناولها الناس في هذا اليوم والتي لازالت قائمة إلي الآن ، البيض، والفسيخ (السمك المملح)، والخَسُّ، والبصل، و الملانة (الحُمُّص الأخضر)، وهي أطعمة مصرية ذات مدلول لدي المصريين القدماء.
فمثلاً البيض يرمز لدي قدماء المصريين إلى خلق الحياة من الجماد، وقد صوَّرت بعض برديات منف الإله "بتاح" إله الخلق عند الفراعنة وهو يجلس على الأرض على شكل البيضة التي شكلها من الجماد ، فقد كانوا ينقشون على البيض دعواتهم وأمنياتهم للعام الجديد، ويضعون البيض في سلاسل من سعف النخيل يعلقونها في شرفات المنازل أو في أغصان الأشجار؛ لتحظى ببركات نور الإله عند شروقه فيحقق أمنياتهم وقد تطورت هذه النقوش فيما بعد لتصبح لونًا من الزخرفة الجميلة والتلوين البديع للبيض ، حيث يعتبر البيض الملون مظهراً من مظاهر الاحتفال بعيد شم النسيم، ومختلف أعياد الفصح والربيع في العالم أجمع، واصطلح الغربيون على تسمية البيض (بيضة الشرق) .
وبدأ ظهور البيض على مائدة أعياد الربيع - شم النسيم- مع بداية العيد الفرعوني نفسه أو عيد الخلق حيث كان البيض يرمز إلى خلق الحياة ، كما ورد في متون كتاب الموتى وأناشيد (اخناتون الفرعوني) ، وهكذا بدأ الاحتفال بأكل البيض كأحد الشعائر المقدسة التي ترمز لعيد الخلق، أو عيد شم النسيم عند الفراعنة .
أما فكرة نقش البيض وزخرفته، فقد ارتبطت بعقيدة قديمة أيضاً؛ إذ كان الفراعنة ينقشون على البيض الدعوات والأمنيات ويجمعونه أو يعلقونه في أشجار الحدائق حتى تتلقى بركات نور الإله عند شروقه - بحسب زعمهم - فيحقق دعائهم و يبدأوا العيد بتبادل التحية (بدقة البيض)، وهي العادات التي ما زال أكثرها متوارثاً إلى الآن .
أما عادة تلوين البيض بالألوان الزاهية ـ وهو التقليد المتبع في أغلب أنحاء العالم ـ فقد بدأ في فلسطين بعد صلب اليهود للسيد المسيح الذي سبق موسم الاحتفال بالعيد، فأظهر المسيحيين رغبتهم في عدم الاحتفال بالعيد؛ حداداً على المسيح، وحتى لا يشاركون اليهود أفراحهم .
ولكن أحد القديسين أمرهم بأن يحتفلوا بالعيد الاسبوع التالي لفصح اليهود تخليداً لذكرى المسيح وقيامه، على أن يصبغوا البيض باللون الأحمر ليذكرهم دائماً بدمه الذي سفكه اليهود .
وهكذا ظهر بيض شم النسيم لأول مرة مصبوغاً باللون الأحمر، ثم انتقلت تلك العادة إلى مصر وحافظ عليها الأقباط بجانب ما توارثوه من الرموز والطلاسم والنقوش الفرعونية .ومنهم انتقلت عبر البحر الأبيض إلى روما، وانتشرت في أنحاء العالم الغربي المسيحي في أوربا وأمريكا، وقد تطورت تلك العادة إلى صباغة البيض بمختلف الألوان التي أصبحت الطابع المميز لأعياد الفصح والربيع حول العالم.
كما بدأ أكل الفسيخ في شم النسيم في عهد الأسرة الخامسة، مع بدء الاهتمام بتقديس النيل "نهر الحياة" (الإله حعبى) عند الفراعنة الذي ورد في متونه المقدسة عندهم أن الحياة في الأرض بدأت في الماء ويعبر عنها بالسمك الذي تحمله مياه النيل من الجنة حيث ينبع -حسب زعمهم-.
وقد أظهر المصريون القدماء براعة شديدة في حفظ الأسماك وتجفيفها وصناعة الفسيخ .وقد كان للفراعنة عناية بحفظ الأسماك، وتجفيفها وتمليحها وصناعة الفسيخ والملوحة واستخراج البطارخ - كما ذكر هيرودوت ذلك المؤرخ الإغريقي الذي اعتنى بتواريخ الفراعنة والفرس،وقال عنهم: "إنهم كانوا يأكلون السمك المملح في أعيادهم، ويرون أن أكله مفيد في وقت معين من السنة، وكانوا يفضلون نوعاً معيناً لتمليحه وحفظه للعيد، أطلقوا عليه اسم (بور) وهو الاسم الذي حور في اللغة القبطية إلى (يور) وما زال يطلق عليه حتى الآن .
البصل والأرواح الشريرة
و يعد البصل من أهم الأطعمة التي حرص المصريون القدماء على تناولها في تلك المناسبة ، ذلك لأنه ارتبط في عقيدتهم بإرادة الحياة وقهر الموت والتغلب على المرض ، فكانوا يعلقون البصل في المنازل وعلى الشرفات، كما كانوا يعلقونه حول رقابهم، ويضعونه تحت الوسائد، وما زالت تلك العادة منتشرة بين كثير من المصريين حتى اليوم أما الخَسُّفهو من النباتات المفضلة في ذلك اليوم، وقد عُرِف منذ عصر الأسرة الفرعونية الرابعة، وكان يُسَمَّى بالهيروغليفية "عب"، واعتبره المصريون القدماء من النباتات المقدسة. كان الخس من النباتات التي تعلن عن حلول الربيع باكتمال نموها ونضجها، وقد عرف ابتداء من الأسرة الفرعونية الرابعة حيث ظهرت صوره من سلال القرابين التي يقربونها لآلتهم بورقه الأخضر الطويل وعلى موائد الاحتفال بالعيد، وكان يسمى الهيروغليفية (حب) كما اعتبره الفراعنة من النباتات المقدسة الخاصة بالمعبود (من) إله التناسل، ويوجد رسمه منقوشاً دائماً تحت أقدام الإله في معابده ورسومه -تعالى الله عن إفكهم وشركهم .
الحمص أو الملانة
وهي ثمرة الحمص الأخضر، وأطلق عليه الفراعنة اسم (حور - بيك) أي رأس الصقر لشكل الثمرة التي تشبه رأس حور الصقر المقدس عندهم .وكان للحمص -كما أن للخس- الكثير من الفوائد والمزايا التي ورد ذكرها في بردياتهم الطبية .وكانوا يعتبرون نضج الثمرة وامتلاءها إيذاناً بميلاد الربيع ، وهو ما أخذ منه اسم الملانة أو الملآنة.
وكانت الفتيات يصنعن من حبات الملانة الخضراء عقوداً، وأساور يتزين بها في الاحتفالات بالعيد، كما يقمن باستعمالها في زينة الحوائط ونوافذ المنازل في الحفلات المنـزلية .عيد القيامة وشم النسيم وعندما دخلت المسيحية مصر جاء "عيد القيامة" موافقًا لاحتفال المصريين بعيدهم، فكان احتفال المسيحيون بعيد الفصح - أو "عيد القيامة" - في يوم الأحد، ويليه مباشرة عيد "شم النسيم" يوم الاثنين، وذلك في شهر "برمودة" من كل عام واستمر الاحتفال بهذا العيد تقليدًا متوارثًا تتناقله الأجيال عبر الأزمان والعصور، يحمل ذات المراسم والطقوس، وذات العادات والتقاليد التي لم يطرأ عليها أدنى تغيير منذ عصر الفراعنة وحتى الآن ، فهي نفس العادات التي ما زال يمارسها المصريون حتى اليوم . |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|