بقلم: علي سالم |
في الأفراح تنطلق الزغاريد، أكثرها قوة وحلاوة تكون عادة من المدعوات وليس من أهل العروسين، ولعل السبب هو أن هناك رحلة طويلة متعبة ومضنية قبل الوصول إلى حفل الزفاف تجعل أم العريس وأم العروس وبقية الأقارب في حالة من الإجهاد تحول بينهم وبين إطلاق زغاريد قوية. ويتغير الموقف عند ظهور مدعوة عفيّة تطلق عند حضورها زغرودة مجلجلة تهز أركان المكان وتشيع فيه الحيوية. هذه الأنثى القوية صاحبة الزغرودة المتميزة، لا شأن لها بتكاليف الحفل وليست مسؤولة بحال من الأحوال عن المتاعب التي أحاطت بمشروع الزواج. والزغرودة بالنسبة لها ليست أكثر من صيحة خارجة من الأعماق تريحها من الضغوط النفسية والعصبية الواقعة عليها. هذا هو التفسير الوحيد للمثل الشعبي الذي يقوله المصريون: «زغرطي ياللي مانتش غرمانة». وهو ما يرسي قاعدة مهمة في السلوك البشري وربما في السياسة أيضا، وهي أن هؤلاء الذين لن يغرموا شيئا، يكونون عادة الأكثر قدرة على إطلاق الزغاريد القوية. سنلاحظ أيضا أن هناك عددا من الأغاني تكلم عن «الزغرودة» لعل أشهرها تلك التي تقول «زغروطة حلوة رنّت في بيتنا.. لمّت حارتنا وبنات حارتنا». هكذا وضع الشاعر الغنائي أيدينا على الصفات الحقيقية للزغرودة الحلوة وهي - تحديدا - قدرتها على حشد كل سكان الحارة في المكان الذي انطلقت فيه الزغرودة. ولما كان العالم صغيرا، فيمكن اعتبار الحارة هي المنطقة العربية، غير أنه لا بد من التنبيه إلى أن الزغرودة لا تصنع الحدث بل تنطلق بعده وفي أثره وكنتيجة له. تماما كما حدث في بغداد منذ عامين بعد أن قذف الصحافي البغدادي الرئيس الأميركي جورج بوش بحذاءيه فردة تلو الفردة، غير أنه لا بد من إثبات أن الرئيس الأميركي استطاع ببراعة لافتة أن يتفادى فردتي الحذاء. وهو ما يدفعنا إلى استنتاج أن منتظر الزيدي لم يتدرب بما فيه الكفاية على القذف بالحذاء، وأنه ليس مدربا بوجه عام على الإتقان، لو كان يتقن مهنته وهي الصحافة، فقد كانت لديه فرصة العمر في أن يقدم للرئيس الأميركي أسئلة محرجة، أو على الأقل أن يعلن رأيه في الاحتلال الأميركي بكلمات واضحة تتسم بالبساطة والتهذيب. حدث ما حدث فانطلقت الزغاريد في الوطن العربي كله، كل هؤلاء الذين لن يغرموا شيئا اندفعوا يزغردون للعريس الذي ثأر للعرب من أميركا. هكذا انهالت التبرعات المالية على البطل قاذف الأحذية من أشخاص عرب وأجانب، ولو أن الاتحاد السوفياتي كان على قيد الحياة لكان من الممكن أن نرى تمثاله قائما هناك مع بقية الأبطال المعادين للإمبريالية. ومن بين التبرعات، وعد صاحب قناة «البغدادية»، التي يعمل فيها الزيدي، على الهواء مباشرة بأن يمنحه بيتا يسكنه في بغداد. أما الكتاب الفقراء، وربما البخلاء، المعادين لأميركا وللغرب بوجه عام، فقد اكتفوا، على سبيل التشجيع والتأييد والتحية، بإطلاق زغاريد قوية على هيئة كلمات في الصحافة أو في برامج الفضائيات. لست أذكر بقية فعاليات هذا المهرجان، غير أنني أذكر فقرة واحدة من برامج الحفل قدمها مواطن مصري. فقد تطوعت أسرة مصرية (بإعطائه) ابنتها الشابة ليتزوجها تقديرا لبطولته، وانتقلت كاميرات الفضائيات على الفور إلى الأسرة في صعيد مصر، الأب فلاح مصري متزوج بسيدة عراقية، والابنة فتاة جامعية جميلة خريجة كلية الآداب جامعة أسيوط، وقالت الفتاة: «نعم.. أريد الزواج بهذا البطل لأسعده بقية حياته. نعم.. أعرف أنه سيدخل السجن.. ويقول القانونيون إن أقصى عقاب في هذه التهمة هو ثلاثة أعوام يفرج عنه بعدها.. سأقوم بانتظاره هذه الأعوام إلى أن يفرج عنه، ثم أسافر إليه لكي أتزوجه». وعندما قيل لها إنه توجد له علاقة خطوبة بفتاة عراقية ردت: «وإيه يعني؟.. سأتزوجه على أي حال لكي أسعده تقديرا لبطولته». ودخل منتظر السجن وخرج منه قبل اكتمال مدة العقوبة، واهتمت بأخباره بعض الجرائد. الواقع أنه لم تكن هناك بالنسبة له أخبار كثيرة، هو خبر واحد يقول إنه فصل من القناة التي كان يعمل بها، وإنه لا يجد عملا. ثم اختفت أخباره مرة أخرى لتعود هذه الأيام («الشرق الأوسط» في 23/3/2010) لنعرف منها أنه يعيش الآن في بيروت، وأنه لم يتلق فلسا واحدا من أموال التبرعات التي وعد بها، ولم يحصل على البيت الذي وعده به صاحب المحطة، ولا شيء عن خطيبته العراقية، ولا شيء عن المتطوعة المصرية التي نذرت نفسها لإسعاده. ربما تكون الفتاة المصرية تزوجت شابا مصريا وهاجرت معه إلى أميركا، أما الفتاة العراقية فربما فكرت في أنه: «ده بيضرب الناس بالجزم.. يا ترى حا يعمل في إيه؟». أطرف ما في الخبر المنشور أنه يهدد صاحب المحطة الفضائية باللجوء للقضاء للحصول على البيت الذي وعده به في بث مباشر على الهواء، وكأن القضاة لا يعرفون أن الكلام على الهواء هو نفسه الكلام في الهواء. الهواء هو نفسه الهواء سواء أطلقت فيه وعودك بالكاميرات عبر الإلكترونات أو بغيرها. استعرضت معك الزغاريد القوية التي أطلقها في الهواء وعلى الهواء، كل هؤلاء الذين لن يغرموا شيئا. وأنتقل بك الآن إلى الظاهرة المسرحية المختبئة والماثلة خلف ذلك كله. المسرح ظاهرة بشرية، وأنا أتصور أنه غريزة كامنة داخل الموهوبين مسرحيا، أو على الأقل القابلين للعمل في المسرح، وفي غياب حركة مسرحية قوية، وفي غياب خشبة مسرح يمارسون فوقها أدوارهم، تحدث عملية التواء في مواهبهم فيتفرغون للتمثيل علينا وليس لنا. الممثل الطبيعي يمثل للناس على خشبة المسرح أو أمام الكاميرا، وعندما يحرم من ذلك يمثّل على الآخرين، والآخرون هنا هم نحن. أما أصحاب الزغاريد فهم يبحثون في الحياة الواقعية عن مشهد درامي مثير يصفقون له، ولا شأن لذلك بالسياسة أو القضايا السياسية. إنها قضية إبداعية بحتة، يتعامل فيها الناس بوصفهم متفرجين على مسرحية. هي مسرحية أبطالها من الزعماء الثوريين، يلعبون أدوارا فقدت شرعيتها الإبداعية فتحولت إلى أعمال من شأنها تدمير الواقع نفسه أو على الأقل تزييفه. إنها قضية الفرجة، وهي العنصر الأساسي في الظاهرة الدرامية. التمثيل هو العنصر الأساسي في الدراما وليس النص كما هو شائع. هناك رغبة قوية حارقة بداخل الممثل في أن تراه الناس، أن «تتفرج» عليه في لحظة قيامه بالفعل. الممثل «يلعب» الدور، أما رجل السياسة فهو يقوم به، والفارق بينهما كبير، الأول يبحث عن متفرجين، أما الثاني فهو يهتم فقط بالفعل الذي يغير حياة الناس إلى الأفضل. انظر حولك جيدا وحاول أن تميز بين رجال السياسة الذين يقومون بأدوار يتطلبها الواقع، والزعماء الثوريين الذين يلعبون أدوارا بهدف الحصول على الفرجة المشبعة لهم، في كل كذبة سياسية ابحث عن عنصر الفرجة.. وهو أهم عناصر المسرح، ستجده ماثلا أمام عينيك بكل وضوح. نقلا عن الشرق الأوسط |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت | عدد التعليقات: ٠ تعليق |