بقلم : فرانسوا باسيلي وإذا نجح البرادعي والمؤيدون له في إحداث التغيير الشامل الذي يريدونه في مصر فقد يحتفظ التاريخ المصري بالعودة المدهشة تلك باعتبارها الخطوة الأولى في مسيرة التغيير فيطلق عليها تعبير "حادثة 19 فبراير"، بنفس الدرجة التي احتفظت بها الذاكرة الوطنية بيوم مشهور آخر من هذا الشهر أطلقت عليه "حادثة 4 فبراير" (عام 1942)، وهو اليوم الذي وصل فيه زعيم الوفد مصطفى النحاس إلى رئاسة الوزارة ضد إرادة الملك فاروق تحت تهديد سافر من الإنجليز الذين أرادوا تأمين جبهة مصر الداخلية خلال الحرب العالمية عن طريق حكومة قوية لها شعبية كييرة وعرفوا أن النحاس زعيم الوفد هو وحده القادر على القيام بهذا. وها هو شهر فبراير يأتي لنا مرة أخرى برجل استطاع أن يجذب في سرعة مدهشة محبة ولهفة قطاعات واسعة متنوعة من المصريين رأيناهم يخرجون بالآلاف لاستقباله في مطار القاهرة رغم تهديدات أمنية معلنة مسبقًا بالقبض على من يفعلون ذلك! لكن شباب الفيس بوك مع رجال ونساء من دلتا مصر وصعيدها مع قيادات لحركات سياسية واجتماعية مع رموز ثقافية وقامات فكرية وإعلامية ذهبوا كلهم للمطار، فأحبطوا آمال الذين هددوا وتوعدوا، وشاهدنا ذلك المشهد المدهش الذي ألقى فيه المئات بأنفسهم فوق سيارة البرادعي الليموزين الطويلة فغطوها بالكامل وهم يهرعون خلفها محاولين الإمساك ولو للحظة بذلك الأمل الجميل القادم، إنها حادثة 19 فبراير 2010 التي قد تكون بداية لتغيير تاريخ مصر. معنى حادثة 19 فبراير لقد صدمتنا وأدهشتنا مشاهد كاشفة لشعب يبحث عن قائد بعد سنوات طويلة من التيه والضياع والتخبط والتدهور، شعب أصابه الملل والسأم والقنوط والإحباط وهو يرى ويسمع أمامه قيادات لا تتغير ولا تتبدل، أسماء هي بعينها يسمع لها وعنها لربع قرن وأخرى لثلث قرن، أجيال من الشباب تولد وتموت أو تهرب من البلد وهي لا ترى وتسمع سوى الوجوه نفسها التي لا تتغير. في الوقت الذي يستمر كل شيء في مصر في الانحدار نحو هاوية جديدة، والفشل تجده في كافة مناحي الحياة في قطاعات الخدمات الأساسية في مصر كالصحة والمواصلات والتعليم والإسكان والبنية التحتية والفوقية والعمالة والصناعة والثقافة والفنون والاعلام مع الأمية والبطالة المتفشية، هذا مع تراجع دور مصر السياسي والثقافي في المنطقة العربية نفسها مما أدى إلى فراغ رهيب قفزت لتحتله دول من خارج المنطقة مثل تركيا وإيران في غياب مفجع لدور مصر الذي كان دائمًا رياديًا. وكأن هذا الفشل والوجع كله ليس كافيًا، رأينا في العقدين الأخيرين تهتكًا متزايدًا في نسيج الوحدة الوطنية داخل مصر بين المسلمين والمسيحيين، حتى كاد أن يصل الأمر إلى انفصام حاد في الشخصية المصرية، فبخلاف علاقات بين شخصيات عامة تظهر الودّ الرسمي، وبخلاف علاقات العمل الاضطرارية، فقد انقطعت العلاقات الاجتماعية تقريبًا بين الأقباط والمسلمين على المستوى الشعبي بشكل لم تعرفه مصر على مدى قرن أو يزيد. شعب يبحث عن قائد ورغم النجاح الذي حققته كفاية - وكان لها بالتأكيد شرف القيام بكسر حاجز الخوف والمطالبة العلنية - لأول مرة في تاريخ مصر الممتد لخمسة آلاف عام - بعدم التجديد للرئيس وعدم التوريث لابنه – وكان هذا إنجازًا هائلًا في حد ذاته، إلا أن تأثير الحركة بدأ في التراجع تزامنا مع بدء جنوحها نحو مواقف أيديولوجية خارج إطار معارضتها لبقاء الحكم، وراحت القوى السياسية المتصارعة على الساحة تحاول اختطافها كل لصالحها، وتنازعت عليها التيارات الإسلامية والناصرية والقومية والاشتراكية والليبرالية، كما تنازعت قياداتها على الزعامة! فلم تستطع أن تتحول من حركة نخبوية إلى حركة شعبية شاملة. أما الإخوان المسلمون، وهم أيضا مزمنون كالنظام تمامًا لا يتغيرون ولا يتقدمون ولا يقدمون فكرًا جديدًا متطورًا، فيعيدون إنتاج خطاب السلف الديني المنغلق الماقبل محمد عبده.. وكان الأولى بهم أخذ ما أعطاه محمد عبده والمضي به لآفاق أبعد لتحقيق مصالحة إسلامية مع العصر وتحديث الخطاب الديني. ورغم انتشار فكرهم ورؤيتهم المتزمتة للمجتمع وللمرأة وللآخر (الأقباط) وللفنون وللفكر والعلم والإبداع، إلا أنني أعتقد أن المصريين – حتى البسطاء منهم – يحملون داخلهم من مخزون الزخم الحضاري وتراكماته عبر آلاف السنين ما يكفي لإفاقتهم من الغيبوبة وحالة الدروشة المفرطة التي أدخلهم فيها فكر الأخوان وتأثير الوهابية بأموالها وذراعها الطويلة الممتدة حول جسد مصر وروحها في غيبة – و تواطؤ بائس – للنظام المصري الذي يرى كل هذه التحولات والانحدارات والانهيارات الاجتماعية والثقافية والإنسانية تحدث أمام عينية وتحت قدميه وهو لا يحرك ساكنًا بسبب ضعفه وفساده وفقر مخيلته وغياب رؤيته لمصر ودورها وعدم فهمه وتقديره لمكانتها. هذه القوى كلها تتصارع الآن لاختطاف البرادعي – أمل مصر – لكي تصل به وعبره إلي تحقيق أهدافها. وهي كلها قوى قد فشلت – منفردة ومجتمعة في تحقيق التغيير المنشود في مصر، وهي – بدون البرادعي – لا محالة ستجد نفسها أمام مبارك الأب لستة سنوات أخرى أو مبارك الابن لثلاثين سنة قادمة، ومع ذلك أستغرب أن بعضها يضع اشتراطات يطالب بها البرادعي، وكأن أمامها خيارات عديدة لديها ترف الاختيار بينها. فالمعارضون في حركاتهم وأحزابهم وتياراتهم ممتلئون حماسة ووطنية وثورية ولكن تنقصهم الحنكة السياسية بل يفتقد الكثيرون منهم للواقعية ويميلون للتطرف والإنجراف وراء شعارات ومثاليات لا تجعلهم قادرين على تحقيق أي شيء ملموس على أرض الواقع، ومنهم من يتصورون أنفسهم جماعات ثورية وليس سياسية ولا يفرقون في خطابهم بين لغة الثورة التي تنفر وتبعد الكثيرين ولغة الواقع التي يحتاجها ملايين المصريين المطحونين. ومن المفرح حقا أن الشباب من مؤيدي البرادعي يتحدثون ويعملون بأسلوب يبدو متجاوزا لثورية الشعارات التي تخطاها الزمن ولم يتخطاها أصحابها بعد، ولذلك على المخضرمين أن يستمعوا للشباب وأن يلحقوا بهم إن كانوا يأملون في التواصل مع الملايين وليس مع المئات كما هو حالهم اليوم. المرجو من كل هذه الحركات أن تتبنى حراكًا سياسيًا جديدًا يمكنها من النزول مع البرادعي في معركته السلمية دون اشتراطات عقائدية مسبقة، عائدين إلى اعتناق هدف حركة كفاية الأصلي وحده – لا للتمديد ولا للتوريث، وبعد تحقيق هذا يمكن أن يطرح كل شيء أمام الشعب في عملية ديمقراطية واسعة شفافة ليختار الشعب منها ما يناسبه ويحتاجه من توجهات وسياسات. والتحدي الذي يواجهه البرادعي هو إقناع هذه الحركات المتلاطمة في التجمع حوله متحررين من "ثوابتهم" التي – إن تمسكت كل جماعة بها – لن تؤدي سوى إلى انفراط العقد وتفتت الجهد، بينما ينزل النظام إلى المعركة وهو جبهة واحدة تعرف ما تريد وتملك أعلى درجات المناورة ولا تكبلها قيود فكرية مسبقة أو "ثوابت" لا تتزحزح عنها معها ارتطمت بأرض الواقع. كما خرج نلسون مانديلا من السجن المؤبد ليقود حركة الانتصار على العنصرية وتحرير بلاده من مستعبديها البيض. ولم يكن سعد زغلول يخطط لكي يكون زعيم الأمة، وكل ما أراده عبد الناصر وضباطه الأحرار هو إصلاح أحوال الجيش فإذا به يصبح زعيم العالم العربي ورائد حركة تحرير الشعوب في أفريقيا وآسيا، ومن يهاجمون البرادعي على كل شيء قائلين أنه غير مؤهل لرئاسة مصر نقول لهم أنه أكثر تأهيلا من كل من حكموا مصر على مدى القرن الماضي لحظة استلامهم للسلطة. |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ٤ صوت | عدد التعليقات: ٣ تعليق |