بقلم : إبرهيم عرفات
ما عرفت آيات الإنجيل وكأنها تمائم مثل التي قامت والدتي بخياطتهن في المخدة التي كنت أنام عليها أو الفانلة التي كنت ألبسها. وآيات الإنجيل ليست للتكرار النمطي في استكانة سلبية قدرية تواكلية. التواكلية القدرية ليست من المسيحية في شيء بل هي ضد المسيحية تمامًا. لا للقدر! ومع كثرة الحروب والسهام التي أدمت جراح الأبدان والقلوب لكثير من الأقباط يكثر استخدام الآيات من الكتاب المقدس. تقدم الكنيسة القبطية الشهداء على مر العصور، وفي الاستشهاد تناثرت بذار غزيرة حيث كما يقول القديس ترتليان "دم الشهداء بذار الكنيسة". نرى دم الشهداء ممتزجًا بدماء المسيح المصلوب فنعرف أن الصليب حقيقة تاريخية ولاهوتية عميقة، وبدونه لا سبيل لنا لأن نعيش حياتنا الحاضرة إذ هو نكران الذات وإيثار الآخر من حيث التطبيق العملي. يؤثرون على أنفسهم ولو بهم خصاصة.
تسأل القبطي المتدين رأيه عن الظلم الواقع على الأقباط عبر العصور فلا يجيب سوى بآية واحدة مفادها الاستسلام للأمر الواقع: "الرب يدافع عنكم وأنتم صامتون". هو يفهم من هذه الآية أنها تشجعه/ تشجعها على الخنوع وفاتهم أن أعداء المسيح يخرون أمامه لحظة مجيئهم للقبض عليه قبيل القبض عليه لصلبه. على الصليب ملك، وشعبه المصلوب معه من الأقباط هم ملوك يأبون المهانة ويأبون تبريرها باستكانة أو خنوع. جملة "وأنتم صامتون" هي حال من حيث النحو والأعراب، وتعني أنكم وفي حال صمتكم الرب معكم خطوة بخطوة يتقدمكم ويصاحبكم وهو خير أنيسٍ لكم. لا تشجع الآية بالمرة على أن يتلقى الإنسان الضربات بصمت ثم يعود ويصبغ المهانة بألفاظ روحية فتلبس المذلة هنا طابع التقديس. كلا! لا سبيل لنا لروحنة الخنوع واعتماده نهجًا روحانيًا. كثيرًا ما سئمت من مقولة الأقباط "ربنا موجود يا أخ تيموثي" وتارة أخرى "ربنا موجود يا براهيم". تقال هذه العبارة بشكل استهلاكي متكرر مبتذل لتبرير هوان الإنسان على ما هو فيه وقبوله بالأمر الواقع وكأنها صدى لعبارات أخرى مثل "قدّر الله وما شاء فعل"، "رضينا بالهم"، إلخ من كل هذه العبارات التي فيها يصادق الإنسان اليأس فيفقد أي ثقة بنفسه على أنه قادر على تغيير الواقع. إنْ كان الله موجود كما تقول، وهو حقًا كذلك، فأنت كـ قبطي تستمد وجودك منه مباشرة لأنه باقتدار دعا الأشياء للوجود من العدم؛ وقد أشرك الإنسان فيما له حيث هو إله الحركة المقتدرة وإله كل جديد وكل حياة جديدة وصانع أمر جديد. إن كان الله موجود فوجوده ليس فكرة نظرية عقائدية ولكنها تعني أني أنا إبراهيم عرفات أستمد وجودي منه مباشرة.
"عقدة الذمي" لن يجني القبطي من ورائها شيء سوى اختزاله ليعيش على هامش الحياة والله أراد له أن يحياة الحياة كاملة بملئها وغناها ووفرتها إذ الحياة كلها توهب له. يخطئون عندما يعلقون كل آمالهم على "الآخرة" وكأن المسيحية تعني انفصال الدنيا عن الآخرة مثلما يفعل أقوام وإنما هي تعني اتحاد عالم السماء بالأرض في الإله المتأنس الذي يُلبس البشر طبيعته فيقتدرون مثله بالحب. هم شعب الحركة. هم يُساءلون غيرهم مثلما يسائلهم غيرهم، وفي بساطة الحمام وحكمة الحيات. ينال القبطي حقوقه من حيث هو مواطن وإنسان ولا ينبغي أن نرّوحن هذا أكثر من اللازم في أمور يستمد الناس فيها كيانهم الطبيعي لمجرد أنهم بشرّ، وهذه هي حقوقهم الطبيعية المكفولة لهم منذ الميلاد، وهذا لأني ببساطة "إنسان"، وهذا يكفي. الدعوة هنا للديناميكية: "قم، احمل سريرك، امش". ماذا تنتظر؟ امشّ الآن. قمّ الآن. قومي الآن. من أجمل العبارات التي تستوقفني في الإنجيل هي عبارة "قم" التي يقولها المسيح للمشلول ويقولها للصبية "طليثا قومي". سواء تكلمت العربية أو الآرامية فالفعل كله نشاط وحركة وقوة أي فعل "قومي". تقولها عفويًا طالبًا من المسحوقين والمضطهدين أن يكفوا عن روحنة الألم مادامت قد جاءتهم الفرصة للانفكاك من الظلم والقهر فلا تتمالك سوى أن تقول: قم.. قومي.. ماذا تنتظرون.. لقد شُفيتم.. لقد نلتم حريتكم.. أنتم أقوياء.. أنتم أحرار.. أنتم مالكون لمصيركم بأيديكم.. لستم أهل ذمة.. لا تنالون ثقتكم في أنفسكم من نظرة الطرف الآخر إليكم بل تنالوها من يقينكم بوجودكم.
يعيب القبطي على الثقافة العربية السائدة كيت وكيت، ومقاييسه في الحكم على الأمور ترتكز على العشائرية وذهنية "كبير العيلة" فتضيع "ذهنية الفردية" في هذه الشمولية الاختزالية. من حقك أن تعترض على رأي المجموع، ومن حقك أن يكون لك رأي مستقل لأنك فرد. من حقك أن تثور وتتمرد وإلا صرت تواكليًا تنصاع للأعراف الجماعية وهي تملي إرادتها عليك دون اعتبار لكيانك واحتياجاتك الشخصية. كيف نريد مجتمعًا مدنيًا والقبطي لا يختلف عن غيره في الحكم على أخلاق الآخرين بمنطقة "ما بين الفخذين"؟ ضمير الإنسان هو مرجعية أخلاقه ولا ينبغي أن يتقيد بأعراف قبلية وطوطمية الحلال والحرام وقيودها. تعفف الإنسان هو اختياره الشخصي كفرد ولكن لا نملك الحق أن نطعن في أخلاقيات من لا يتعفف فنقول هذا شريف وتلك عاهرة. لابد أن ينطلق الفرد من سطوة هذا التفكير الظالم ويتحرّر لأنه فيه يريد أن يجعل الآخرين مثله وكأنه قد أضحى إله لهم جميعًا. نأتي للمهجر ونسمع عبارات مثل "فلانة ماشية مشي بطال". نسأل: ولماذا؟ الجواب: لأنها لها علاقة رومانسية بشاب أو شيء من هذا القبيل. من منصاتهم يصدرون الأحكام ويقيّمون هذا وتلك. لابد لنا من احترام حقوق الآخرين في أن يكونوا كيفما يريدون أن يكونوا، وهذا هو السبيل الأفضل لخلق بشر أصحاء لا من يحكمون الآخرين بالقهر. يجب أن نمارس الحرية مع أنفسنا أولاً ثم تجاه الآخرين قبل أن ننتظرها من الآخرين ونحن لا نفرق عنهم في إصدارنا أحكامًا تقيمية بحق فلان وعلانة. التبعية السلبية تنتج أشخاصًا مشلولي الإرادة، بعكس الأحرار الذين يتخذون مواقفهم عن ثقة وقوة لا خوف. الله لا يريد محو شخصية الإنسان وإنما يريد للإنسان أن يكون ناضجًا متكاملاً في شخصيته وبهذا يتمجد فيه، وبهذا يتحقق قول القديس إيريناوس في القرن الثالث المسيحيّ: "مجد الله في الإنسان الحي".
|
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|