بقلم: القس. رفعت فكري
مع مطلع القرن الحادي والعشرين ومع كل ما حققه الإنسان من تقدم هائل في كافة الأصعدة والمجالات الحياتية، ومع كل ما يعيشه إنسان اليوم في عصر الحداثة والعولمة ولكن من المؤسف لم يستطع هذا التقدم أن يهدي البشرية إلى السلام والرفق وقبول الآخر المغاير سواء على أساس الجنس أو اللون أو الدين, إذ تبقى هناك الكثير من مظاهر الجاهلية التي كانت تحكم في عصور غابرة والتي لا تزال عالقة ومترسخة في النفس البشرية وكأنها تأبى أن تنفض ذلك عنها رغم تغير الرداء الذي ترتديه.
ومن أمثلة رفض الحداثة والتمسك بالموروث القديم ذلك القرار الماضوي الذي اتخذه مجلس الدولة المصري والذي ظهر فيه موقفه الصارم والمتشدد من تولي المرأة القضاء, فلقد قررت الجمعية العمومية لمستشاري مجلس الدولة عدم الموافقة علي تعيين الإناث في الوظائف القضائية "قاضية" بمجلس الدولة,وأسفرت نتيجة تصويت أعضاء الجمعية العمومية عن رفض 334 عضواً من درجات وكيل ونائب مجلس الدولة ومستشار على تعيين الإناث لوظيفة قاض ووافق 42 فقط.
وهنا لا بد أن نؤكد أن أي تمييز يمارس ضد أي إنسان بسبب جنسه أو لونه أو دينه هو نوع من أنواع العنف, فالعنف قد يكون مادياً ملموساً وقد يكون معنوياً محسوساً, والعنف بصفة عامة هو ظاهرة عالمية تزايدت مؤخراً بسبب ضغوط العولمة الاقتصادية والاجتماعية وأصبحت مشكلة معقدة أمام العديد من المجتمعات, وظاهرة العنف عامة تهدد المنجزات التي حققها الإنسان خلال السنوات الماضية، والأسوأ من ذلك كله عندما يتعدى ويمتد هذا العنف إلى الفئات الضعيفة في المجتمع كالمرأة مثلاً. فالعنف ضد المرأة ظاهرة مزمنة, وهو أكثر أحد انتهاكات حقوق الإنسان انتشاراً وشيوعاً وذيوعاً, وهو يخترق الحدود الثقافية والإقليمية والدينية والاقتصادية ويطال كل طبقة وعنصر وعرق وسن ودين و عقيدة وقومية وهوية جنسية, وتعتبر ظاهرة ممارسة العنف ضد المرأة هي أقبح عار يجلل الإنسانية في عصرنا الحالي فهذا العنف الذي تتجرعه المرأة هو سُبة شنعاء في جبين الإنسانية وأقبح بلاء منيت به حقوق الإنسان في عصرنا الحالي.
والعنف كما عرفته المادة الأولى من الإعلان العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20 كانون أول عام 1993.هو (أي فعل عنيف قائم على أساس الجنس ينجم عنه أو يحتمل أن ينجم عنه أذى أو معاناة بدنيين أو جنسيين أو نفسيين للمرأة بما في ذلك التهديد باقتراف مثل هذا الفعل أو الإكراه أو الحرمان التعسفي من الحرية سواء أوقع ذلـك في الحياة العامة أم الخاصة ) . وقد ورد نفس هذا التعريف في الوثيقة الصادرة عن المؤتمر العالمي الرابع للمرأة في بكين / الصين عام 1995. فالعنف ضد المرأة هو كل سلوك فردي أو اجتماعي أو ثقافي أو مؤسسي يحط من قدر المرأة ويعمق تبعيتها للرجل ويحرمها من حقوقها المقررة لها بقوه التشريعات السماوية والوضعية.
ومن أخطر أسباب التمييز ضد المرأة هو أن هناك أفكاراً وتقاليداً كثيرة لا تزال متجذرة في ثقافات الكثيرين والتي تحمل في طياتها الرؤية الجاهلية لتميز الذكر على الأنثى مما يؤدي ذلك إلى تصغير وتضئيل الأنثى ودورها, وفي المقابل تكبير وتحجيم الذكر ودوره, حيث يعطى الحق دائماًَ للمجتمع الذكوري للهيمنة والسلطنة وممارسة العنف على الأنثى منذ الصغر، وتعويد الأنثى على تقبل ذلك وتحمله والرضوخ إليه إذ إنها لا تحمل ذنباً سوى أنها ولدت أنثى.
وما فعله مجلس الدولة يتنافى تماما مع اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة التي اعتمدتها الجمعية العامة وعرضتها للتوقيع والتصديق والانضمام بقرارها 34/180 المؤرخ في 18 كانون الأول / ديسمبر 1979 حيث نصت الاتفاقية في ما دتها الأولى :- لأغراض هذه الإتفاقية يعنى مصطلح " التمييز ضد المرأة " أى تفرقة أو استبعاد أو تقييد يتم على أساس الجنس ويكون من أثارة أو أغراضه توهين أو إحباط الإعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية أو في أى ميدان آخر ، أو توهين أو إحباط تمتعها بهذه الحقوق أو ممارستها لها ، بصرف النظر عن حالتها الزوجية وعلى أساس المساواة بينها وبين الرجل.
كما نصت المادة 11 على :
1- تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في ميدان العمل لكى تكفل لها، على أساس المساواة بين الرجل والمرأة، نفس الحقوق ولا سيما:
(أ) الحق في العمل بوصفه حقاً ثابتاً لجميع البشر؛
(ب ) الحق في التمتع بنفس فرص العمالة، بما في ذلك تطبيق معايير اختيار واحدة في شؤون الإستخدام؛
(ج) الحق في حرية اختيار المهنة ونوع العمل، والحق في الترقية والأمن على العمل وفي جميع مزايا وشروط الخدمة، والحق في تلقى التدريب وإعادة التدريب المهنى، بما في ذلك التلمذة الحرفية والتدريب المهنى المتقدم والتدريب المتكرر.
إن القرار الذي اتخذه مجلس الدولة يعد انتهاكاً واضحاً فاضحاً لحقوق الإنسان , وهذا القرار يتنافى مع مواد الدستور المصري التي تتحدث عن المواطنة والمساواة بين جميع المواطنين, إننا اليوم نعيش في القرن الحادي والعشرين , والعالم الحر المتقدم حسم قضية المرأة منذ عقود مضت , حتى أن بعض الدول العربية المجاورة لنا حسمت هذه القضية ووافقت منذ زمن على تولي المرأة القضاء ؟ أين نحن ؟ وفي أي زمن نعيش ؟!! وأين ريادة مصر التي كثيراً ما نتشدق بها ونتباهى بها ؟!! هل أصبحت مصر رائدة في العودة للقرون الغابرة ؟!! وهل أصبحت المحروسة متميزة في الجري نحو الماضي بسرعة الصاروخ ؟!! يبدو أن ماقاله الشاعر الكبير نزار قباني أصبح ينطبق علينا بكل جدارة :
خلاصة القضية توجز في عبارة
قد لبسنا قشرة الحضارة
والروح جاهلية |