بقلم: د.عبد الخالق حسين
منذ إسقاط الفاشية في العراق والإعلام العربي يحاول تشويه صورة العملية السياسية والديمقراطية الوليدة، واعتبار أهم مؤشر لنجاح المصالحة والعملية السياسية ونزاهة الانتخابات البرلمانية هو السماح للبعثيين بالمشاركة فيها. ولم يكتفوا بهذا الشرط المخالف للدستور العراقي فحسب، بل وأشاعوا أن القصد من إبعاد البعثيين هو حرمان السنة العرب من المشاركة في العملية السياسية، بينما كشفت الحقائق أن نسبة البعثيين الشيعة المبعدين أكثر من السنة العرب.
قلنا في مناسبات سابقة أن شعباً لم يمارس الديمقراطية والانتخابات النزيهة من قبل طوال تاريخه، لا يمكن أن تولد فيه الديمقراطية كاملة وناضجة في أول يوم من ولادتها، بل لا بد وأن تبدأ بالصعوبات والمشاكل، ناهيك عن تكالب القوى الشريرة المناهضة لها والتي تعمل كل ما في وسعها على إجهاضها وهي في المهد. وعلى رأس هذه القوى المعادية للديمقراطية طبعاً فلول البعث المنحل المتمرس على التخريب والإرهاب، والذي نهب كل ما يملكه الجيش العراقي السابق من أسلحة وذخيرة ومتفجرات ومعامل صنعها...الخ، إضافة إلى الإرهاب القاعدي وبعض دول الجوار التي لا تريد للعراق خيراً. ولكن رغم كل هذه الصعوبات والعراقيل أصر الشعب العراقي على تبني الديمقراطية وإنضاجها خطوة بعد أخرى.
فهاهو الأستاذ عبدالرحمن الراشد يعترف في صحيفة الشرق الأوسط، بإصرار العراقيين على تجاوز الطائفية إذ قال: "من كان يتوقع أن يرى زعيم عشيرة سنيا مثل غازي الجربا يصبح حليفا في ائتلاف سياسي انتخابي مع المجلس الإسلامي الأعلى الشيعي؟ وفي الوقت نفسه يرى ابن عمه نواف الجربا في ائتلاف آخر مختلط بقيادة جواد البولاني؟ أو يرى علمانيا محسوبا على إيران مثل أحمد الجلبي مع سني من الأنبار (حميد الهايس)، في المجلس نفسه مع السيد عمار الحكيم؟. وفي تجمع إياد علاوي، ليبرالي شيعي، يقود فريقا من السنة مثل طارق الهاشمي وأسامة النجيفي. حتى رئيس الوزراء الحالي، الذي وصمه خصومه بالطائفية، ذهب اليوم إلى الانتخابات بقائمة من الوزن الثقيل، السني والعلماني الشيعي، حيث يشاركه في القائمة شيخ الدليم علي حاتم من سنة الأنبار، وإسلامي سني، وكردي شيعي هو ثائر الفيلي، وعلماني شيعي هو مهدي الحافظ." (الشرق الأوسط، 7/3/2010).
وهكذا كان يوم 7 آذار/مارس 2010، يوماً عظيماً في تاريخ العراق الحديث، ونقلة نوعية جديدة أخرى في عملية نمو الديمقراطية العراقية وإنضاجها ونجاحها، حيث أثبت الشعب فيه تحديه للإرهابيين الذين طالبوه بمقاطعة الانتخابات وهددوه بالقتل والدمار، ولكن المفرح أنه كلما تمادا الإرهابيون في تهديداتهم وجرائمهم وغيهم، كلما ازداد اصرار الشعب على المشاركة في التصويت، الأمر الذي أثار إعجاب زعماء العالم ووسائل إعلامه بشجاعة هذا الشعب وتحديه للإرهاب، وإصراره على بناء دولته الديمقراطية.
وهذه مقتطفات من شهادات زعماء العالم كما نقلتها هيئة البي بي سي على موقعها العربي: "أشاد الرئيس باراك اوباما بـ"ملايين العراقيين" الذين أدلوا باصواتهم، بعد ساعات من إغلاق صناديق الاقتراع في ثاني انتخابات نيابية تشهدها البلاد منذ عام 2003... وقد حيا الرئيس الأمريكي "شجاعة" الناخبين العراقيين الذين "تحدوا التهديدات للمضي قدما في ديموقراطيتهم" مشيدا بقوات الأمن العراقية لما وصفه "بمقدرتها ومهنيتها". ومن جانبها هنأت وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلينتون العراقيين الذين أدلوا بأصواتهم في الانتخابات. وتوجهت بالشكر إلى مفوضية الانتخابات العراقية وقوات الأمن العراقية، وقالت في بيان لها أن "خلال الأشهر القادمة، سنعمل سويا مع القادة العراقيين". كما وحيا وزير الخارجية البريطاني ديفيد ميليباند العراقيين على "تصميمهم على التصويت". كذلك رحبت وزيرة خارجية الاتحاد الاوروبي كاثرين اشتون بمشاركة "عدد كبير" من العراقيين في الانتخابات التشريعية رغم الهجمات التي شهدها البلد، معتبرة ان الامر "يستحق التقدير". وقالت اشتون في بيان لها إن "هذه المشاركة، رغم الهجمات العنيفة التي تخللت الحملة الانتخابية ويوم الاقتراع، تؤكد التزام الشعب العراقي في سبيل الوصول إلى بناء عراق ديموقراطي". والجدير بالذكر أن راقب سير العملية الانتخابية ما يقرب من الف وخمسمائة من المراقبين الدوليين. (موقع بي بي سي العربي، مساء 7/3/2010).
ولكن لكل قاعدة شواذ، فلا بد لهذه الشهادات الإيجابية بنجاح الانتخابات أن تأتي حالة شاذة للتشكيك بها، والجانب المشكك هو السيد طارق الهاشمي الذي عودنا بدوره المزدوج، كمشارك في العملية السياسية بمنصب النائب لرئيس الجمهورية، ومعارض لها وكثرة استخدامه لنقض القرارات والقوانين كمحاولة منه لعرقلة العملية السياسية. إذ يبدو أنه الوحيد الذي "دعا المفوضية العليا للانتخابات إلى تحديد من وصفها بالجهات المتورطة في المخالفات والتزوير وإرهاب المواطنين وملاحقتها قضائيا. وأكد أن مكتبه تلقى العديد من الشكاوى بشان حدوث اختراقات خلال الاقتراع الخاص." (نفس المصدر).
إن عادة التشكيك في نزاهة لانتخابات متوقعة من بعض الأطراف وخاصة تلك التي تتوقع الخسارة، إذ لم نتوقع أن يقدم الخاسر تهنئة إلى الفائز حين تعلن النتائج، لأن الديمقراطية مازالت جديدة ولم تتأصل بعد لتصبح تقليداً مألوفاً في العراق المبتلى بالثقافة البدوية. فالعراقي وكما وصفه عالم الاجتماع الراحل علي الوردي مصاب بازدواجية الشخصية (بدوي وحضري). ولهذا فإذا مني العراقي بالهزيمة وحتى في الانتخابات فيعتبرها بمثابة إهانة لشخصه وجرح لكرامته ونرجسيته، لذلك فلا بد وأن يبحث عن مخرج مسبقاً، وفي هذه الحالة ليس أفضل من الطعن بالانتخابات حتى ولو اعترف المراقبون الدوليون بنزاهتها.
شاء المتشائمون بمستقبل العراق أم أبوا، فقد صار من حكم المؤكد أن العراق يسير بخطوات جادة وثابتة، ورغم الصعاب، نحو ترسيخ الديمقراطية. ونظراً لتعددية مكونات الشعب، القومية والدينية، وكثرة القوى السياسية المشاركة في الانتخابات، حيث بلغ عددها 165 كياناً ينتمون الى 12 ائتلافاً سياسياً، لذا فمن الصعوبة أن يفوز إئتلاف واحد بأغلبية المقاعد البرلمانية، وبالتالي من المستحيل على إئتلاف واحد أو حتى إئتلافين تشكيل الحكومة لوحدهما. لذلك نرى أنه لا بد من حصر تشكيل حكومة إئتلافية على مشاركة ثلاث أو أربع كتل بدلاً من ضم جميع الكيانات الكبيرة والصغيرة فيما يسمى بـ(حكومة الوحدة الوطنية)، خاصة بعد أن تجاوزت هذه الكتل التكوين الطائفي حيث صارت كل كتلة تضم أعضاء من مختلف مكونات الشعب، القومية والدينية والمذهبية.
لقد أثبتت تجربة الأعوام الأربعة الماضية أن "حكومة الوحدة الوطنية" وخلافاً لاسمها، هي غير موحدة، بل ومعرقلة لأداء الحكومة. وبما أن العراق قد خطى الآن خطوة أخرى نحو إنضاج الديمقراطية، وفي النظام الديمقراطي لا بد من وجود معارضة ديمقراطية مؤلفة من الكتل التي لم يحالفها الحظ في الحصول على أكثرية المقاعد في البرلمان. إذ كما قال أحد علماء الاجتماع: "أعطني معارضة صالحة أعطيك حكومة صالحة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
الموقع الشخصي للكاتب |