بقلم: أُبي حسن
تنويه: منذ عشرة أيام, طلب مني بعض الأصدقاء, في أحد المواقع الالكترونية المحليّة, كتابة مقال ذاتي لهم, كي يكون فاتحة ملف عن بعض "ذاتيات" الصحفيين السوريين, خاص بموقعهم؛ وكان لهم ذلك. غير أنهم اكتشفوا اليوم, منذ بضع ساعات, ومن بعد أن نشروه للحظات, أنه "ثقيل" عليهم وعلى موقعهم!. لذا وجب التنويه.
أول مهنة مارستها في فتوتي هي رعي الماعز, فقد كان الأهل يقتنون بعضها لتعينهم في أمور الحياة. أما آخر مهنة زاولتها وما أزال, هي الصحافة. وبين الرعي الذي جمع المتعة وفوضى الحرية, وامتهان الصحافة التي سمتها التعب والشغف بالمعرفة, مارست العديد من المهن.
إبّان قيادتي للماعز في الجبال والأحراش, كنتُ أتأمل المدى الذي كانت حدوده السماء, وفي الأرض كنتُ مشغولاً بالتخلص من الضيق الذي كاد يخنقني بفعل كابوس الاستبداد. وغني عن البيان أني كنتُ أعتقد أن الممثل الحقيقي للاستبداد, هو النظام السياسي الذي علينا التخلص منه, لندخل من بعده في "جنة" الحرية.
طغيان الشعور بالاستبداد دفعني للكتابة المسرحية أولاً, باعتبارها كانت أمراً متاحاً لي وإن في حدود ضيقة. في محاولاتي المسرحية القصيرة, فُجعت بحالة الانحطاط التي تعيشها الحركة المسرحية في البلاد, وعلى
أكثر من مستوى. إذ, كان (مرض) الاستبداد ومشتقاته حاضراً بقوة في من عاشرت من مسرحيين.. الاستبداد المتجلي برفض الآخر ونبذه والتقليل منه ومن شأنه, وتبخيس جهده, إلى أن يتكلل الأمر بالعمل على إحباطه وتهميشه. هذا الجو الموبوء هو أحد الأسباب التي دفعتني إلى الصحافة التي لم أكن أفكّر بالعمل فيها من قبل.
في بلاط السيدة الأولى(الصحافة), وجدتُ الأمراض أقل حدة من أوساط سواها, قد يكون أحد دوافع ذلك الإحساس, كوني لم أعمل في مؤسسات صحفية رسمية تمتهن إخصاء العقول واحتقار أصحاب المبادرات. وإذا, ما داهمتك تلك الأمراض, تكون فسحة المناورة والمداورة لديك أقل ضيقاً, وإن جاز القول: أكثر اتساعاً.
وإذ أتذكر الآن, وبكثير من الامتنان, صحيفة "النور" الشيوعية, المنبر الأهم الذي قدّمني إلى المحيطين الثقافي والصحفي, فإني أتذكر كذلك عقداً من الزمن, كنتُ خلاله صديقاً وفياً للبؤس والشقاء والمرارة بمختلف أصنافها. أتذكر كذلك كيف بفضل الصحافة تعرفتُ إلى الناس, وولجتُ أعماق المجتمع متجولاً في سراديبه المظلمة, لأكتشف بأن الاستبداد الذي عزمت على محاربته كائن في بنية هذا المجتمع وثقافته, ابتداء من المنزل والمحيط العائلي الضيّق, وانتهاء بالعائلة الأوسع/الوطن, من دون أن أغفل عن الاستبداد في تراثنا الذي به نفاخر, وان استبداد النظام سيبدو مزحة(وفي مرحلة لاحقة, سأغدو أراه ضرورة, مع الأسف) أمام استبداد خصومه والمجتمع الذي يقوده!
وبقدر ما كنتُ وفياً مع الصحافة قدر ما كانت كريمة معي, إذ بفضلها خضتُ غمار مجاهل عدة لم تكن في الحسبان, وعرفت من الشخصيات ما لم يكن يخطر على بال. وبمعيتها عرفت أن إحدى الفروق بين الريف والمدينة كائن في المصطلحات أكثر مما هو في معناها, كأن يُسمى البخل في المدينة اقتصاداً, والانتهازية والوصولية برغماتية(وشطارة), والخيانات الزوجية نزوات غرامية, والبساطة والطيبة سذاجة, والصدق غباء, والكرم هدراً, والوضاعة والتزلف كرامة وكبرياء, والكذب فضيلة... وهلم جرا. بكلمة أخرى: صدمتُ بغياب القيم المدنيّة في ما يفترض أنها مدن! وهذا الرأي ينطوي على استثناءات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.
بعد عقد من الزمن, كان من الطبيعي أن أعيد تقييم رحلتي المتواضعة مع من أراها سيدة أولى تعلو ولا يُعلى عليها, لأصل إلى نتيجة مفادها: إني راض عما حققتُه قياساً بالظروف الصعبة التي عايشتها, لكني قطعاً لست راضياً مقارنة بطموحي وما في ذهني من مشاريع لم تنجز بعد. والى أن تحين الفرصة لأكمل مشواري معها, أقضي نهاري قراءة ثم قراءة ثم قراءة ثم كتابة.. أتابع بنهم جلّ ما يصدر من فتاوى, عندما أقرأها أغبط جدتي على أميّتها.. "أحسدها" كونها ماتت ولم تسمع بكلمة "فتوى", ومن المؤكد أنها لا تعرف معناها.. وأقرأ معظم ما يُكتب عن بحوث علمية واجتماعية تصدر في بلاد لا تنتج تمراً وفتاوى وحقداً على بني البشر. بعد ذلك أقف على شرفة منزلي المطلّ على الوادي والجبال من حولي, حيث كنتُ أرعى الماعز منذ قرابة العشرين عاماً, متسائلاً في سرّي: متى سأرجع راعياً أسوق قطيعي, غابطاً نفسي كوني لا أسمع بشيخ جليل من قبيل القرضاوي, أو مرتزق بوضاعة جورج وتفاهة وضّاح على سبيل المثال لا الحصر. |