بقلم: محبة متري
لا تتسرعوا إخوتي الأعزاء وتظنوا اني أقصد أن المواطنة في مصر مريضة أو تعاني إلى هذه الدرجة، وإنما اقصد بالمواطنة (أنا)، حيث دخلت أنا المواطنة لإجراء جراحة لازمة تستغرق إقامة ليلتين بها وأحببت ان أشارككم معي في تجربتي.
المستشفى تخضع للتأمين الصحى وبالرغم من ترددى بسبب خبرتى السابقة في التعامل مع نظام التأمين الصحى العلاجى من حيث الروتين وارهاق المريض باجراءات معقدة لابد من اجتيازها بدءا من الممارس للأخصائي للأستشارى الى معامل التحاليل والأشعة وكل ذلك فى اماكن يفصل بينها مسافات ومواعيد الحجز والدور وعندما يصل المريض اخيرا للطبيب المختص وهو منهك يكاد يلفظ انفاسه ان كان مازال على قيد الحياة يصرف له فى الغالب ادوية بديلة او لاتناسب حالته حسب جدول محدد وخاصة اذا كانت أدوية غالية الثمن...لكل ذلك ترددت ولكن ماشجعنى هو السمعة الطيبة للمستشفى .
أردت ان اخوض التجربة وفى النهاية الله هو الشافى,فاتجهت في الموعد المحدد للدخول الساعة الثامنة صباحا واستغرقت اجراءات الدخول الادارية والعرض علي الاطباء خمسة ساعات بالتمام والكمال وكنت اظنها لن تستغرق ساعة واحدة حيث كنت في حجرتى الساعة الواحدة ظهرا..ولكن ماجعلنى اتغلب على ملل الانتظار السيدة فاطمة وقد تعرفت عليها وهي ترافق زوجها الذي سيجري جراحة وقد شعرت بالالفة ناحيتى بعد تبادلنا حوارا قصيرا فتركت مقعدها بجوار زوجها وجلست بجانبى تحكي لي همومها في رحلة مرض زوجها وتسالنى عن ظروفى المرضية مثلها مثل اى سيدة مصرية بسيطة طيبة فى مجتمعنا فبمجرد الدخول فى حوار معها شعرت انى اعرفها منذ زمن طويل وكاننا اقارب ولم يكن التعارف منذ ساعات قليلة فقط.
من الوهلة الاولى تبدو المستشفى من الداخل نظيفة لامعة الكل يتعامل بنظام وهدوء , دلفت الى حجرتى ...حييت الموجودات .. توجد مريضتين بخلافى بالحجرة بجوار كل منهما تجلس مرافقة ....جلست علي سريري اتامل الغرفة , فى السرير المقابل رأيت سيدة مسنة جميلة ذات وجه هادئ تنام وهى جالسة بوداعة وراحة واستسلام على كتف امرأة شابة تعتنى بها أشد الاعتناء حيث انها في شبه غيبوبة نتيجة عملية بتر لساقها وتلبى احتياجاتها بكل حب وحنان وتهدهدها مثلما تهدهد الام طفلها الصغير , فتفكرت فى داخلى كم ان هذه الابنة تحب والدتها بشدة لانها لاتتركها لحظة وتبيت معها وتبذل مجهودا جبارا فى العناية بها , بعد قليل علمت ان السيدة المريضة ينادونها بأم أحمد والمرافقة لها تدعى تريزا والسيدة بمثابة الام لها وقد حكت تريزا عن مدى حبها لآم أحمد جارتها بالشقة المقابلة فقد كانت لها نعم الام طوال سنين جيرتهما وحيث ان تريزا لم تنجب اطفال فقد قررت ان ترافقها في المستشفى لتخفيف العبء عن بناتها المشغولات باعمالهم واطفالهم, فكن يجئن يوميا لزيارتها ثم تركها فى رعاية تريزا.
فى السرير المجاور لى كانت هناك راعوث سيدة مسنة ايضا مصابة بالزهايمر واجرت جراحة ولاتدرى من امرها شيئا وكانت عند اعطائها العلاج بالحقن من الممكن ان تصفع الممرضه وتهينها والممرضه تضحك وتعاملها بصبر وحب.
قضيت ليلتى الاولي قبل العملية أتجاذب اطراف الحديث معهن نحاول ان نتقاسم الامنا ونخفف عن بعضنا ونحاول الترفيه عن ام احمد بينما مريم ابنتى وشيماء التى في مثل سنها وهى ابنة احدى المريضات يقومان بمساعدة من يحتجن الى المساعدة بنشاط وكأن الفرصه قد جاءتهمها ليثبتا انه من الممكن الاعتماد عليهما ولم يزالا مجرد طفلتين.
فى اليوم التالى وهو يوم اجراء الجراحة توجهت الى غرفة العمليات تم مناداة اسمى انا ومريضة اخرى للبدء بنا بالجراحة ...محبة...زينب.....اجلسانا فى حجرة خارجية للاعداد للعملية لمدة دقائق ..دخلنا سويا حجرة الانتظار ..جلسنا سويا نشجع بعضنا البعض ونكاد نسمع صوت دقات قلبينا سويا...كنت اعلم ان الجراحة التى ستجريها اصعب من جراحتى وأخطر وهى في الستينات من العمر .. اخذت احدثها واطمئنها بانها ستخرج سالمة باذن الله وستنتهى متاعبها والامها ووجدت نفسى قد نسيت خوفى وظروفى وكاننى لست مقبلة على جراحة انا الاخرى ..ضحكت فى سرى وسالت نفسى من اين واتتنى هذه الشجاعة .
انتقلت كل منا الى حجرة عمليات منفصلة ... عند دخولى شعرت بالرهبة وخاصة عندما رايت الاجهزة والمشارط والكشافات.. وددت لو استدرت وعدت ادراجى ولكن هيهات فقد كان حلما بعيد المنال, نظرت فأذا بثلاثة اطباء حولى الدكتور جرجس رئيس قسم الجراحة بالمستشفى ومساعده الدكتور عمرو بخلاف الدكتور حسين طبيب التخدير , بدأوا يعدوننى للجراحة ويتحدثون معى حديثا باسما لتشجيعى .. شاهدت طبيب التخدير يبدأ فى الاستعداد للتخدير , سمعت الدكتور جرجس والدكتور عمرو كل منهما يتمتم بصوت خفيض بأيه من كتابه المقدس ليبارك الله عملهما المشترك, ابتسمت....شعرت بالسلام والامان...صليت انا الاخرى في داخلى ..اسلمت ذراعى لابرة التخدير وانا مطمئنة وواثقة اننى اسلم نفسى لله الذى يمسك بالمشرط ويقود عمل هؤلاء الاطباء الآمناء ويرشدهم .
عندما افقت وجدت حولى صديقاتى الجدد ..فاطمة التى حضرت لتطمئن عليّ , وتريزا وشيماء يبتسمن من حولي ويهنئننى بالسلامة ويتبادلن العناية بى.
انقضت ليلتى الثانية وحان وقت خروجى , ودعت صديقاتى الاعزاء وتبادلن ارقام التليفونات...تمنيت لهن الخروج بالسلامة ثم توجهت الى حجرة الاطباء لأشكرهم قبل مغادرتى... وجدت الدكتور جرجس جالسا بالمنتصف يلتف حوله فريق الجراحة من الاطباء الشبان ومن الواضح انهم يتناقشون فى موضوع طبى, هو يقوم بتعليمهم وتدريبهم وهم ينصتون ويتعلمون منه بحب واحترام التلميذ للاستاذ....انتظرت الى ان انتهوا ثم قدمت شكري لهم على اهتمامهم وحسن رعايتهم وحسن ادارة المستشفى .
خرجت فرحة وفخورة باشياء كثيرة تتزاحم فى رأسى...كانت تجربة سعيدة الحمد لله..كم انا فخورة بهذه المستشفى التى اعادت لى الثقة فى نظام التأمين الصحى بمصر فهى لاتقل شأنا عن أى مستشفى استثمارى ان لم تكن أفضل و تأكدت ان هناك أناس يعملون بصمت وحب وأمانة دون هدف ربح ودون انتظار شكر ودون تفرقة....والاهم اننى فخورة بوطنى وأهلى وقد تيقنت ان روح المواطنة مازالت موجودة بين الشعب المصرى البسيط وهو ليس بشئ غريب فطوال عمرنا كذلك نتلاحم ونتكاتف فى اي ظروف ونتقارب وقت الشدة والازمات ,هذا ليس غريبا ولكن الغريب هو من يحاول ان يثير الفتن او يبث روح التعصب ويتاجر باستقرارنا وسلامة وطننا... فى المستشفى لم يفرقوا بين محبة وزينب ..وأنا ايضا لم استطع التفرقة بين راعوث وأم محمد وتريزا .. الكل حوطوني بحبهم و عندما تأملت في عيونهن وجدت أحلي عبارات المحبة وأعظم التعاملات الإنسانية.
فعلا .... فقد لمست المواطنة الحقيقية ... قبل وبعد العملية.!!!!
فى رحلة العودة تأملت فى داخلى ونظرت الى الطريق امامى....الطريق طويل وان كان ليس ممهدا بالكامل ولكنه جميل ...الشمس مشرقة... نظرت الى وجوه البشر وكل منهم يلهث وراء لقمة عيشه...كل منهم يكافح ..كل منهم وراءه قصة...ربما تجربة انسانية مثلى. ...وجوه كم احبها و أعتز بانتمائى لها.
كم اشتاق اليك يابيتى ....كم احبك يابلدى.....كم أشكرك يا الهى......فالمواطنة مازالت بخير.
رنت فى أذنى كلمات الشاعر الكبير فاروق جويدة:
يا سادة الأحقاد
مصر بشعبها
بترابها
بصلابة الإيمان
مصر العظيمة
سوف تبقى دائماً
فوق الخداع ..
وفوق كل جبان
مصر العظيمة
سوف تبقى دائماً
حلم الغريب
وواحة الحيران. |