بقلم: أنطوني ويلسون
الأخـــيــــــرة
خطوبة ابنتها الليلة، ومن واجبها كأم، أن تقف الى جوارها حتى تمر الأزمة النفسية التي تعانيها صافيناز بسلام.
دارت الأيام.. سافرت صافيناز مع زوجها الى باريس، وتنقلت من بلد الى بلد، ومن قارة الى اخرى. أخلصت لزوجها، وتابعت باهتمام مدحت يخطو خطواته بقوة وثبات وسط الفنانيين المصريين والعالميين.
أما مصطفى فلم يكن موجودا ليلة توديع مدحت وخطوبة اخته. انتظرها في باريس حيث كان يدرس القانون في جامعة السوربون. لما عاد الى القاهرة تزوج من ابنة احد الوزراء وسار في الطريق السياسي كأحد اقطاب الحزب السعدي واصبح مرشحا لوزارة الداخلية خلفا لجده.
لم تنقطع الصلة بين مصطفى ومدحت. بل ظلا كعديهما، صديقين وفيين.
مدحت ذاع صيته،وكثر عمله وسفره من قطر عربي الى آخر. وكانت ألحانه تعزف في اوروبا.
لم يتزوج.. اكتفى بفنه والسن يتقدم به. وكلما اشار مصطفى اليه بضرورة الزواج، كان يرد عليه بان الوقت قد فات وانه الأن شيخ قارب الستين. فما فائدة الزواج؟!
ذات ليلة، في دار... " الأوبرا " المصرية بعد ان انتهى من عزفه على البيانو، وقف محيّيا الجمهور وتطّلع الى المقصورة التي يجلس فيها مصطفى وزوجته وابنته فجذبت انتباهه فتاة في الخامسة والعشرين من عمرها الى جوار ابنة مصطفى تصفق باعجاب شديد لدرجة انها شدّت انتباه جميع الحاضرين.
فوجئ مدحت بعد ادائه أن جاءت اليه «سريه هانم» ابنة مصطفى ومعها الفتاة التي جذبت انتباهه وانتباه الجميع بتصفيقها المتواصل الحاد.
اخبرته ان صديقتها «عبير» أعجبت به أشد الاعجاب وأنها المرة الأولى التي تستمع الى عزفه، ولهذا طلبت منها بان تقوم بتعريفها اليه.
ومنذ اللحظة صارت «عبير» تلميذة مدحت. بدأت تتدرب على العزف.. تذهب اليه في محرابه، ترافقه، تعد له الطعام.
نسيت بأن هناك عالما خارجيا، كانت يوما فيه. أصبح كل عالمها هذا المسكن المتواضع الذي يعيش فيه مدحت الذي أصبح كل شيء بالنسبة لها.
ليس من المهم ان تتعلّم العزف، بل المهم ان ترى مدحت كل يوم، ان تكون الى جواره في كل حفل يحييه، ليثيرها تصفيق الناس له بعد تصفيقه لها. فإعجاب الناس به، اعجاب بها.
أنس مدحت بـ «عبير:، شكر الله انه ارسلها اليه في هذه السن حتى تؤنس وحدته. لها مذاق فني يختلف عن اي انسان عرفه في صباه او شبابه أو شيخوخته.
أصبحت المستمع الأول له والناقد الوحيد الذي يتقبل نقده. ومع مرور الوقت، شيء جديد ظهرت علاماته على مدحت وهو، ان تأخرت «عبير» عن موعدها قليلاً.. تنتابه الهواجس ولا يطمئن حتى يراها. وعندما تتركه يتمنى لو قال لها ان تبقى معه. وان سهرت في حفل من حفلاته، يشفق عليها من السهر.
وهكذا نما في قلبه هذا الشيء الغريب، الذي لم يعهده من قبل. أهو الحب؟ ام الألفة؟ ام ماذا؟. لا يعرف.. وهي لا تهتم بشيء قدر اهتمامها به والعمل على راحته.
ذات مساء بعد انتهائه من العزف في احدى حفلاته، جاء رئيس الوزراء بنفسه وهنأه وطلب منه ان يحيي حفل عيد ميلاد ابنته.
بدأ مدحت في وضع لحن جديد.. لحن لم يسمع العالم مثله من قبل، وضع في هذا اللحن كل احاسيسه ومشاعره. وبعد ان انتهى منه، جلس يعزف اللحن و»عبير» الى جواره تستمع اليه.. بكت.. تهلل وجدانها عاشت اللحن.. رأت الانفعالات المرتسمة على وجه فنانها واذا انتهى صفقت له.. صفقت طويلا وترامت تقبله.
لم يتحمل.. أبعدها عنه برفق.. طلب منها ان تتركه الى حين. انه بحاجة للخلود الى نفسه.
ترددت «عبير» في الخروج.. أرادت ان تبقى معه فالتعب والاجهاد باديان عليه.. ومع ذلك لم تشأ ان تغضبه. تعلم ان خلوته لنفسه تعني له الكثير.
اما مدحت فلم يقم لوداعها.. بل ظل في مجلسه ووضع ساعده فوق حافة البيانو وأراح رأسه فوق راحة يده.
فنان مشهور.. استطاع ان يطور الفن في مصر.. قارب الستين من العمر.. قضى زهرة شبابه جادا مجاهدا مناضلاً. حياته موسيقى وفن وادب. اخذ بنصيحة استاذه الصوفي، لم تعرف المرأة طريق مخدعه.. الموسيقى حياته «الأدب والمعرفة» هما الهدف الذي يسعى اليه.
لم يشعر يوما باحتياجه الى امرأة، لم يعرف الحب طريقا الى قلبه.. قتل حبه لصافيناز وهو ما زال برعما صغيرا.. اما الآن فهو شيخ في الستين.. وهي فتاة في الخامسة والعشرين وكيو بيد الحب يضرب بسهامه قلبه دون هوادة.. فماذا يفعل؟ قلبه يدمى.. مقاومته تضعف.. قبلتها فوق جبينه تلهبه.. ووجد نفسه يصرخ بصوت عالٍ..
- مالي وهذا.. مالي وأنا شيخ هرم؟! فات الأوان الأن.. آه لو كنت شابا لتغير الحال.. مالي وهذا الآن؟!
واذا بضحكة مجلجلة تملأ المكان.. نظر يمنة ويسرة.. أمامه وخلفه.. لم يجد احدا.. استمر صوت الضحكة يقطع عليه محاولة الرجوع الى نفسه. اخذ يجوب المكان باحثا عن مصدر الصوت.. لم يجده.. عاد الى مجلسه.. لا بد وانه يهذي.. لا احد في المسكن سواه، خرجت «عبير» ولم تعد بعد.. انه يفكر في شبابه.. لا بدَّ وانه يسخر من نفسه ويسمع صوت الضحكة بعد..
الصوت اقترب.. اقترب حتى خاله فوق رأسه.. نظر الى أعلى رأى شبحا يضحك فوقه.. أخذ الشبح يهبط في بطء.. ومدحت فاغرا فاه محملقا، لا يستطيع الحديث او الحركة.. حتى تجسد امامه وانحنى في حركة مسرحية وقال له:
- شبيك لبيك
- من انت.. اخبرني من تكون؟
- أنا رهن اشارتك.. أنا الذي أستطيع..
- تستطيع ماذا؟
- استطيع ان اعيد لك شبابك..
- تعيد لي شبابي.. حقا هذا..؟ «أصحيح»؟
- نعم..
- بالله عليك.. قل لي من أنت؟.. من أين جئت؟ أنا وحدي في هذا المكان..
- حقا أنت وحدك.. ليس في هذا المكان فقط.. بل في كل مكان تتواجد فيه.. أما من أنا؟ أنا من «ينحني له».. أنا الشيطان وينحني الى المدى..
لم يتحمل الصدمة، انه مؤمن.. يعرف الله، ويؤدي كل فرض في وقته. فكيف يأتيه الشيطان؟ وماذا يريد منه؟.. ترنح.. كاد يقع.. أسرع اليه الشيطان وامسكه.. تحامل مدحت على نفسه وصرخ به..
- ابتعد عني.. لا تلمسني.. ابتعد ايها اللّعين ابتعد.
- سمعا وطاعة.. سأبتعد.. ولكنك ستندم..
- لا شيء أندم عليه.. لا أعرف ولا اريد منك شيئاً..
- انت لا تعرفني، ولكني انا اعرفك.. وأعرف ما أنت في احتياج اليه..
- أغرب عن وجهي..
- لا تصرخ.. لا، اني تاركك الآن.. ولن تحصل على ما تتمناه..
استدار.. همَّ بالانصراف.. ارتفع عن الأرض.. فكر مدحت في ما قاله له.. ولن تحصل على ما تتمناه. تردد.. كيف؟ لا؟.. انه يتمنى ان يعود شابا.. وها هو الشيطان يعرض عليه المساعدة.. لا.. فليذهب الشيطان الى الجحيم.. لن أطلب منه شيئا.. ولكن «عبير» .. «عبير».. حبي «لعبير».. انها شابة وأنا كهل، لن أستطيع أن أُفصح عن حبي لها.. ستهزأ بي. وهل يعرف ان هذا ما أتمناه؟ لماذا لا أسأله..؟ لن أخسر شيئاً.. نادى على الشيطان:
- «أُهبط ثانية أين انت.. تعال؟
- ماذا؟ ألم تقل: أغرب عن وجهي؟!
- هل تعرف ما اعانيه؟ وما اريده؟!
- نعم.. انك تحب «عبير» ولا تستطيع أن تبيح بحبك لها. لانك كهل، وقد جئت لأقدم لك العون.
اخذ يترجاء، يتوسل اليه هيا الي.. تعال.. نزل الشيطان وقال له:
- اخلط هذا الدواء بالمياه واستحم بها. تعد كما تتمنى وتريده.
مد الشيطان يده ثم ابتعد وقال له:
- مهلا.. لا أثق بالبشر، يغيرون ينكثون.. يخونون..
- ماذا؟
- اكتب ميثاقا للحال..
- وما فيه هذا الميثاق؟!
- تعود شاباً، وأخذ فنك وموهبتك..
- لا.. لا.. خسئت..
- انت حر.. والا سأعود الى حيث أتيت..
بدأ يتحرَّك ولكن الفنان اوقفه، أحضر ما يكتب عليه.. وأسرع للتوقيع. ولكن الشيطان قال له..
- مهلا صديقي أنا لا أثق في المواثيق التي توقع بالمداد.. فهي لا قيمة لها.
أمسك بذراع مدحت وأخرج مشرطا وأحدث جرحا في ساعده، وغمس الريشة في دمه وطلب منه التوقيع عليه.
فعل مدحت كل ما أمره به الشيطان وكأنه مسحور في عالم آخر. فعل كل هذا ليعود شابا ليستحق «عبير» وليفاجئها بالحدث.
ناوله الشيطان الدواء.. واخذ يقهقه بصوت عال ويختفي قائلاً بسخرية:
- ها.. ها.. ها.. لعلّي أسديت .. أسديت جميلاً لأحد ابناء البشر. هه.. هه.. ها.. ها..
خرج مدحت من الحمام شابا وسيما كما تتمناه كل فتاة وتعشقه كل امرأة.
أخذ ينظر الى نفسه في المرأة ويتيه اعجاباً بشبابه. يدور حول نفسه ويغني. يقفز في الغرفة قفزات كلها مرح. ها قد عاد اليه الشباب، لم يصدق، ولكنها حقيقة واقعة.
توقف عن الغناء.. فكر في «عبير».. يريد أن يفاجئها.. ويفاجئ العالم برجولته وانه يرتع بالمنح التي حرم منها سنين.. يقضي ليلته في حان، وفي ملهى حتى يجيء الغد ويذهب الى بيت رئيس الوزراء.
نسي كل شيء.. نسي أنه فقد موهبته الفنية ولسان حاله يقول «اليوم خمر وغدا أمر ».
كان يخشى ان يزول عنه شبابه.. فأخذ يتنقل من حان الى حان ومن أحضان امرأة الى أحضان اخرى.. يشرب الخمر، يرقص، ضاربا عرض الحائط بكل ما تربَّى عليه وبكل ما لقَّنه استاذه من تقوى وكبح جماح الشهوة.. الى أن جاء المساء.
في بيت رئيس الوزراء.. تجمع المدعوون. كلهم في انتظار الاستاذ مدحت. لم يُسمع شيء عنه. ولا «عبير» تدري مكانه. انها مع «جومانه» ابنة رئيس الوزراء، قصت عليها ما حدث ليلة أمس، أخبرتها عن اللحن الذي سيعزفه خصيصا الليلة. انها خائفة.
شيء يحدثها بأنها لن ترى مدحت مرة اخرى. تخشى ان يكون قد اصابه مكروه، و «جمانة» تهدئ روعها. لا تقدر تملك أعصابها. الكل في حيرة، ورئيس الوزراء مشدود الأعصاب. هذا الاحتفال، ليس المقصود به عيد ميلاد ابنته فقط، بل انه ايضا «تكتيك» سياسي.
فجأة أعلن عن مجيء الاستاذ مدحت. اتجهت العيون صوب المدخل، شهقت النسوة عند رؤيته، تسمر الرجال في اماكنهم. وضعت «عبير» يديها فوق عينيها حتى لا ترى ما رأته. تحققت هواجسها، لقد أصاب مدحت مكروه ما: وجاء هذا اللعين ينتحل اسمه.
كيف يجروء على هذا ويأتي الى بيت رئيس الوزراء؟
وقف مدحت فوق الدرج بثياب مبعثرة، لم يفطن الى شيء فقد اعتاد الناس رؤيته أنيقا وان كان شيخا. لم يعبأ بنظرات الناس اليه.. نزل الدرج وكأنه مارد خرج من قمقمه. تقدمت اليه بعض النسوة المتقدمات في السن.. سخرن منه.. سألته عن الدواء الذي اعاد اليه شبابه.. زمجر في وجوههن.. هددهن.. ارتعبن وتنحين عنه.
«عبير» واقفة الى جوار «جمانة» لا تدري ماذا تفعل لوأتجه اليها..
لا يعترض احد طريقه اليها.. وصل.. ركع.. اخذ يبثها حبه وغرامه.. انتفضت.. صرخت.. جرت وهي تبكي صارخة.. جرى وراءها.. أمسكها.. حاولت ان تتخلص منه.. لم تستطع.. سالت الدموع من مقلتيها غزيرة.. أمسك وجهها بين يديه وأخذ يمسح دموعها في حنان.. ولكنها خائفة.. الصوت صوت مدحت.. والملامح ملامحه.. ولكنه ليس مدحت، فمدحت شيخ وهذا شاب!!
تقدمت جمانة بشجاعة وجرأة وقالت له:
- هل أنت الاستاذ مدحت العلايلي؟
لم يجبها.. نظر الى «عبير» .. قال لها بعينيه.. أجيبي عني.. الا تعرفينني.. أنا مدحت.. مدحت حبيبك. ولكن «عبير» ادارت وجهها.. فأعادت جمانه السؤال عليه.. فأومأ بالايجاب.. فسألته ثانية:
- ان كنت انت الاستاذ مدحت.. خبرني بالله عليك.. لماذا أنت هنا؟
- لأحيي عيد ميلادك..
- حقا.. وماذا أعددت لهذا الحفل؟
- لحنا لم يسمعه أحد من قبل.
- اذا.. أطربنا.. أسمعنا هذا اللحن.
- تذكر ميثاق الشيطان.. لقد وقع عليه بدمه بالأمس.. لن يستطيع العزف.
حاول ان يأخذ «عبير» ويجري. لكن جمانه شجعت الرجال على التجمع حوله. هجموا عليه، خلصوا «عبير» من يديه. أمرتهم جمانه أن يأخذوه الى حيث يوجد البيانو ليثبت للجميع انه هو .. هو الفنان العظيم «مدحت العلايلي».
جلس ليعزف. فخرج عزفه نشازا. سخر منه الجميع.. هزأوا به .. صفعوه، وركلوه، بصقوا عليه وطردوه.
جرى الى منزله. لم يصدِّق نفسه. جلس ليعزف فلم يستطع. أخذ يصيح ويصرخ لاعنا الشيطان وميثاق الشيطان، طالبا منه أن يأتي ويعيد اليه شيخوخته وفنه. لا شيء في الدنيا يساوي ما وصل اليه من مقدرة وفن.
أخذ يضرب البيانو بقدمه في عصبية شديدة.. وزاد صراخه وصياحه. وإذ «بعبير».. تتقدّم نحوه في بطء.. تسمع صراخه، تسمع كلامه دون ان تفهم ما يقول وهو متكئ الى حافة البيانو ورأسه فوق راحته.
- استاذ مدحت.. استاذ مدحت.. استيقظ.
رفع رأسه.. تلفَّت يمنة ويسرة.. فلم يرَ سوى «عبير» أمامه.. سألته عما به.. ضحك وحمد الله على أن كابوسا زال عنه.. أمسك بيدها.. أجلسها الى جواره.. اعتدل في جلسته وترك يدها. وأخذ يعيد على مسامعها اللحن الذي وضعه خصيصا لها.
(تمت)
|
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|