بقلم: د. صبري فوزي جوهرة
باستثناء جماعة المنتفعين بنظام الحكم القائم في مصر المتورطين تحت حمايته في نشاطات منافية للأخلاق أو القانون، فإن الغالبية العظمى من المصريين على اختلاف طبقاتهم وتباين انتماءاتهم الاجتماعية والمهنية واتجاهاتهم السياسية والفكرية وربما العقائدية أيضًا تتمنى -وإن كان في سلبية يصعب فهمها على غيرهم- أن تنتهِ هذه الحقبة المريرة من تاريخهم ويُعاد بناء الوطن على أعمدة قويمة سليمة غير ملوثة أو فاسدة.
يُجمع المصريون أن بلادنا قد عانت من الانحدار والانحسار والتدهور والفوضى والعصف بالعدالة وحقوق الإنسان، وهي التزامات يمليها التقدم البشري وتتطلبها شرعية الدولة الحديثة. ومن ثم, فقد اشتدت رغبة ورجاء السواد الأعظم من الشعب في إحداث تغيير حقيقي يتضلع بإزالة الأنقاض وإعادة البناء. وإلى الآن, يبدو أن انتخابات الرئاسة القادمة في عام 2011 تمثل نقطة التحول الشرعي السلمي المحتمل لتحقيق هذا الأمل.
ومن جهة أخرى، يتوقع الكثيرون استمرار النظام (أو قل اللخبطة) الحالي باستمرار الرئيس الحالي في الحكم, ويرجع هذا إلى انحسار الخيار بينه وبين الإخوان المسلمين، وهو أمر لم يخفَ لحظة واحدة عن رئيسنا واستغله أفضل استغلال لإرهاب الأقباط في مصر وإرغامهم على تقبل ما يفرضه عليهم "سنيدة" النظام وحواشية من اضطهاد هو في واقعه عصر استشهاد جديد في تاريخهم. بل أن أكثر وأكبر ضحايا هذا الابتزاز ليسو الأقباط بل هي الولايات المتحدة الامريكية، فقد خضعت هي الاخرى لذات التهديد.
دار حوار (أو قل هبشة من جهتي) بيني وبين ممثلتي فى مجلس النواب الأمريكي -وهي صديقة شخصية لزوجتي- وكنت قد قابلتها لمدة تعدت الساعة في أعقاب إحدى الأزمات المتعددة السابقة التي تعرض لها الأقباط، كنت قد حاولت الاتصال بها ولم أجدها وتغاضت عن لرد مكالمتي الهاتفية، فعاودت المحاولة بنجاح أخيرًا، أبلغتها أولاً بأسفي وغضبي الشديد لعدم توقيعها خطاب وجه إلى حسني مبارك من أربعة عشر من أعضاء الكونجرس احتجاجًا على مذبحة نجع حمادي، ثم دار بيننا حوارممتد يتلخص في النقاط التالية:
1. أعربت لها عن غضبى الشديد لانتهاك واستهلاك الضرائب التي أقوم بسدادها لحكومة الولايات المتحدة، فتتحول إلى وسائل اضطهاد بل ومدافع رشاشة تقع في أيدى قتلة أهلي وعشيرتي في مصر.
2. حاولت الاستعباط بادعاء أنها لم تكن على علم بتفاصيل المأساة. كان ردي أن في هذا إهمال منها حيث أن الحدث قد أوعز إلى من هم أكبر منها قدرًا مثل بابا الفاتيكان وحكومة كندا والبرلمان الأوروبي بالتعبير عن الأسف والتخوف على مصير أقباط مصر.
3. أعربت لي بصراحة أن الولايات المتحدة تعمل على بقاء حسني مبارك في الحكم حتى لا يقع في أيدى الإخوان وتصبح مصر إيران أو حماس أو طالبان أخرى.
فكان ردي أنه لا شك بأن المخابرات الأمريكية على علم تام بمدى الكراهية التى يبثها إعلام مبارك ضد بلادها, كما أن سياساته الداخلية تنافس الإسلاميين تملقًا وتطبيقًا للتشدد الإسلامى المؤدي إلى ازدهار التطرف والإرهاب في داخل مصر وخارجها, فتكون النتيجة المحتمة ليس فقط ذبح الأقباط بل ظهور أعداد كبيرة ومتجددة من أمثال عطا والظواهرى وغيرهم من المصريين العاملين في صفوف القاعدة.
4. أوضحت لها أن حسنى مبارك يعلم تمامًا أن بقائه في الحكم أو إبعاده عنه يتوقف على إرادة الولايات المتحدة. وأعدت إلى ذاكرتها اليندي في شيلي ومصدق في ايران وغيرهما. وبالتالي فمن المسلم به أن يكون للولايات المتحدة على أقل تقدير بعض التأثير على سياسات مبارك.
5. أوضحت لها أن ملياري الدولارات السنوية التي تمنحها الولايات المتحدة لمبارك لا تمثل وسيلة ضغط على النظام المصري. فباستطاعته مد اليد للسعودية مقابل المزيد من وهبنة مصر, أو ترك الأمور إلى المزيد من التدهور ومعاناة الشعب. فلم يكن استمرار التدهور أبدًا حافزًا ظاهرًا للسلطة على التحرك الفعال لمعالجته.
وبما أن الاهتمام الأوحد لمبارك ورجاله هو البقاء في الحكم بأي ثمن, فإن تهديد الولايات المتحدة بالتخلي عنه هو العامل الأهم في إقناعه بالتراجع عن الممارسة الفعلية لسياسة أسلمة مصر. وأن في هذا التراجع مصلحة مصر أولاً, والأقباط والمسلمين من شعب مصر ثانيًا، والولايات المتحدة التي لا ترغب في قيام دولة مصرستان ثالثًا.
6. أن تكون المعونة الأمريكية المقدمة لمصر ممهورة ببرامج ملزمة مفصلة لأوجه إنفاقها تُحاسب عليها حكومة مبارك بكل دقة.
إلا أن أخطر الاستنتاجات التي توصلت إليها بعد سماعي واقتناعي بأن الولايات المتحدة هي السند الأقوى للنظام المصري الحالى هو أن ما هذا سوى استقواء عارم ومبرح لا شك فيه بأمريكا, وليس ما يقوم به أقباط المهجر الغلابة من أنين لما يلحق بذويهم في بلادهم من تصفية هو الدعوة للاستقواء كما يدعي كارهونا من المغفلين والمنافقين والخبثاء والمستعبيطين والمرتزقة فاسدي الضمائر, بل أن السيد رئيس جمهورية مصر العربية وبطانته بلحمهم (وبلاش دمهم لعدم التأكد من توافره) هم المستقوي الأول بالخارج، حيث يتطلع شعب مصر إلى انتهاء حكمه بينما هو سادر في إهمال كل شيء آخر ما عدا العمل على البقاء على كرسيه.
إن ما يجرى الآن هو استعانة واضحة وفعالة لفرد (بالفاء من فضلكم) بالولايات المتحدة على إرادة أمة متحضرة بأكملها للاستمرار في موضع السلطة المطلقة بالرغم مما يعلمه الجميع أن ليس في بقائه صالح البلاد.
أليس هذا هو الاستقواء بعينه "وبحرفنة"؟ |