بقلم / كمال غبريال ولكي لا نعطي الأمور أكثر من حجمها الحقيقي، وأيضاً لكي نجد تفسيراً لولادة جماعة الإخوان المسلمين المشئومة في قلب تلك الفترة (عام 1928)، وانتشارها منذ ذلك التاريخ انتشار النار في الهشيم، رغم اغتيال قائدها حسن البنا، علينا أن نحاول التدقيق في حقيقة ما يعتبره كثيرون "فترة ليبرالية"، ومعه حقيقة ما اعتدنا على تلقيبه بثورة 1919، فولادة جماعة الإخوان المسلمين لا ينبغي أن ينظر إليها، وكأنها ميكروب أصاب الجسد المصري فجأة. . فأي حركة أو دعوة ناجحة، لا ينبغي تبسيط توصيفها، بإسنادها إلى شخص منشئها أو الداعي لها، فأي داعية ناجح لابد وأن يعزى نجاحه هذا، إلى أنه جاء في الوقت المناسب، معبراً عن عما يكون الناس مهيئين له، فالبذار لا تنمو إلا إذا كانت التربة مناسبة لها،ومستعدة لقبولها. . تحرضنا تلك الوقائع وما ترتب عليها، على التشكك في توصيف ثورة 1919 وما تلاها، على أنها فترة ليبرالية، بل وعلى توصيف حركة سعد زغلول ورفاقه ذاتها، على أنها ثورة شعبية بكل معنى الكلمة. . فنجاح عملية جمع توقيعات لتوكيل سعد وزملائه، لا تعطي دلالة حقيقية على مشاركة كل المصريين والفلاحين في أنحاء مصر كما يتم تصوير الأمر، فالثورة كانت بحجم الصفوة المشاركة فيها في المدن الكبرى، وبالأخص في القاهرة، فقد توفر من الوعي ما يكفي، لالتفاف الجميع حول دعاة الاستقلال، وهذا بالتحديد نجاح جدير للثورة وفكرتها المحورية، لكن عموم الفلاحين، الذين هم الجسد الرئيسي للشعب المصري، فليس لنا أن ندعي أن وعيهم كان قد وصل إلى النضال من أجل استقلال، أو من أجل دعوة ليبرالية، ترفع شعار الهلال يحتضن الصليب، إنما كل ما في الأمر وراء نجاح الوفد، أن قياداته كانت من الإقطاعيين، وكان الفلاح المصري الذي يعمل في مزارعهم، مستعداً أن يوقع لهم على أي توكيلات يشاؤون، وأن ينتخب بعد ذلك للبرلمان، إما هؤلاء الملاك أنفسهم، أو من يشيرون لهم بانتخابهم. لا نستهدف بما ذهبنا إليه هنا أن نقلل من شأن ثورة 1919، فهي محاولة جليلة لتحرير مصر من الحماية البريطانية، وهي أيضاً محاولة نبيلة لاستزراع الليبرالية في مصر، لكننا نهدف إلى تأمل حقائق الواقع والتاريخ، لكي نكون لها تصوراً أقرب ما يكون للواقعية، حتى لو كان ذلك التصور سيبتعد بنا عما كنا نتمناه، أو ما يحلو لنا أن نتصوره. . فالحقيقة هي أن محاولة تلك الصفوة النبيلة لتحديث مصر، لم تستطع تجاوز القشرة الخارجية، ممثلة في صفوة ونشطاء المدن والمراكز، لكنها لم تتجاوز ذلك إلى عمق الكتلة الجماهيرية المصرية، مع الأخذ في الاعتبار أن التيار اليساري بل والشيوعي، كان في تلك الفترة أيضاً في أوج ازدهاره، ويجوز القول أنه كان له النصيب الأكبر في استقطاب المثقفين والعمال والطلبة، وإن لم يستطع هو أيضاً اختراق الريف، وقد شارك الأقباط في التنظيمات اليسارية، كتفاً بكتف مع سائر إخوانهم في الوطن، ولم يكن من المتوقع أن يأخذ أحد منهم في اعتباره، في ذلك الزمن، أن الليبرالية وحدها هي الكفيلة بقبول واستيعاب الأقباط داخل النسيج المجتمعي المصري، نظراً لتضادها مع فكرة امتلاك أي طرف للحقيقة المطلقة، وهو الفكر الذي يدفع معتنقه لمحاولة استئصال كل مخالف من الساحة، يستوي في هذا الخلاف السياسي الأيديولوجي والخلاف الديني. لو افترضنا أن زعمنا هذا صحيح، ونظنه كذلك، فعلينا أن نبحث السبب، فيما يعد إخفاقاً لهذه الصفوة الرائعة ولا شك من الليبراليين. . هنا نجد في طريقنا أكثر من عامل، قد يكون أحدها أو بعضها أو حتى كلها مجتمعة، هي سبب ما نزعمه من فشل وانتكاس لتيار الليبرالية الوليد: · أن يكون ما أتى به دعاة التنوير، قد اصطدم بالأفكار والتقاليد السائدة، والتي يعدها أصحابها مقدسة، ولم تجد الأفكار الجديدة قبولاً أو استعداداً للتجاوب معها، بعكس ما حدث مع دعوة حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان، والتي وجدت صداها لدى الجماهير، ورغم المناهضة الشديدة لها عبر عصور الحكم المختلفة، فإنها كانت تقوى يوماً بعد يوم، لدرجة كانت تغري الحكام باللعب بها على عواطف الجماهير، أو المزايدة عليها، كما هو حادث في أيامنا هذه. · أن يكون رواد التنوير قد عجزوا أو تقاعسوا عن النزول برسالتهم إلى القاعدة الشعبية، واقتصرت دعوتهم وآليات نشرها، على حدود المتعلمين والصفوة في المدن، وأهملوا الطبقات الدنيا والأرياف، والتي أصبحت فيما بعد المورد لقوى التخلف والتعصب، خاصة مع التطور الصناعي وتزايد الكثافة السكانية بالريف، والنزوح المستمر من الريف إلى المدن، لتكون النتيجة هو قيام هؤلاء بترييف المدينة، بدلاً من أن تقوم المدينة بتمدينهم، والأخذ بيدهم في طريق الحضارة، إذ قاموا هم بفرض قيمهم وأزيائهم على المدينة، بل وتمادوا في أيامنا هذه في ذات الاتجاه التراجعي، حتى صارت قيم وأزياء الريف القديمة، أكثر تحضراً من الواقع الراهن، الذي فرض الآن على كل من المدينة والريف. |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ٥ صوت | عدد التعليقات: ١ تعليق |