بقلم: د. عبد الخالق حسين
أطلعتُ على تقرير عن (السومرية نيوز) من واسط، جاء فيه: " قررت محافظة واسط،... إخراج الأعضاء السابقين في حزب البعث المنحل من وظائفهم لدى الحكومة، وبذلك تكون انضمت إلى محافظتين أخريين هما البصرة وكربلاء اللتين سبقتا في تطبيق إجراءات مشابهة." (موقع الأخبار، 10/2/2010).
أتمنى أن يكون الخبر غير صحيح، وإن كان صحيحاً، وهو الاحتمال الأكبر، فهو إجراء خاطئ ضمن قائمة طويلة من الأخطاء التي ارتكبتها السلطات المحلية والمركزية منذ سقوط حكم البعث الغاشم ولحد الآن، لأني في هذه الحالة أعتقد جازماً أن المستفيد الأول من هذا الإجراء التعسفي، هو فلول البعث التي تقود عمليات الإرهاب، فهذا الإجراء هو عاطفي ومرتجل ومتسرع وإنتقامي، ويقدم خدمة كبرى لأعداء شعبنا، في الداخل والخارج، لأنه يوفر لهم معيناً لا ينضب لتجنيد العصابات الإرهابية.
ومن المفيد أن أعيد ما قلته في مقال سابق لي ذكرت فيه: ((أن البعث ينقسم إلى فريقين: الأغلبية الساحقة التي تضم نحو مليونين من أبناء شعبنا من الذين اضطروا للانتماء إلى حزب البعث لضمان سلامتهم وكسب معيشتهم في الحصول على الوظائف ومقاعد دراسية في الجامعات والبعثات التي احتكرها حزب البعث الحاكم للمنتمين له فقط...الخ، ومعظم هؤلاء لم تتلطخ أيديهم بدماء العراقيين،... وأنه ليس من العدالة ولا من الفائدة لشعبنا، منع نحو مليونين من العراقيين من حقوق المواطنة، وحرمان بلدنا من مساهماتهم الايجابية في إعادة الإعمار، خاصة ومن بينهم عدد كبير من التكنوقراط، ومن حملة الشهادات العالية وأصحاب خبرات نظرية وعملية في التنمية البشرية والاقتصادية والإدارية. أما الفريق الثاني من البعثيين، فهم الأقلية التي لا تتجاوز نسبتهم 1% من مجموع أعضاء حزب البعث، من الذين ارتكبوا الجرائم البشعة ضد شعبنا، ومازالوا يواصلون إرهابهم في تخريب البلاد وقتل الناس الأبرياء باسم مقاومة الاحتلال)) (راجع مقالنا، حول لقاء الأمريكان بالمسلحين البعثيين ، مواقع الإنترنت، 28 تموز 2009).
ومن نافلة القول أنه عندما اضطر الإنسان العراقي للإنتماء لحزب البعث ولمدة طويلة، فلا بد وأن يتدرج في السلم الحزبي، ويمكن أن يصل إلى مرتبة عضو فرقة فما فوق. وعليه لا يجب النظر إلى هذا الإنسان من منظور درجته الحزبية، بل من منظور سلوكه عندما كان حزب البعث مهيمناً على السلطة. هل ارتكب هذا الشخص أية جريمة بحق المواطنين بسبب انتمائه الحزبي؟ هل تلطخت يداه بدماء أبناء الشعب؟ هل سرق أموال الدولة؟ هل قام بالجرائم بعد سقوط البعث؟ هل قام بالترويج لحزب البعث؟ فإذا كان الجواب على أي من هذه الأسئلة بالإيجاب، عندئذ يجب محاسبته وفق القانون. أما إذا كان الجواب بالنفي، فيجب كسبه لصالح التولات السياسية، وعدم أخذ البريء بجريرة المذنب. فالوظيفة هي مصدر رزق عائلة هذا البعثي السابق، فلماذا يطارد الإنسان على رزق عائلته؟ ماذا عساه أن يعمل لضمان معيشة أطفاله بعد الفصل؟
هذا الإجراء تعسفي وعشوائي وسيفتح الأبواب مشرعة لأعداء التغيير، وبالأخص الإعلام العربي المضاد الذي سيتخذه ذريعة لتشويه صورة شعبنا بأنه شعب يتصف بثقافة العنف والانتقام، متعطش للدماء والثأر البدوي. فإلى متى تستمر دوامة العنف والعنف المضاد، خاصة ونحن نطالب بنشر روح التسامح والعمل على تجفيف منابع الإرهاب، وقطع جميع روافده البشرية والإعلامية والمالية. أما إذا واصلنا عملية الانتقام من البعثيين السابقين الأبرياء، فإننا نساهم في هذه الحالة أن نضع هذا الإنسان أمام خيار واحد، ألا وهو الإلتحاق بالإرهابيين كمصدر لضمان معيشته، إن لم يكن تنظيمياً فيمكن أن يصبح أجيراً "على القطعة" عندهم لتنفيذ المهمات القذرة في القتل والتخريب. إذ نعرف أن الإرهابيين يوظفون بعض العاطلين عن العمل والمحتاجين للمال، لتنفيذ بعض المهمات الإرهابية القذرة مقابل مبالغة زهيدة. ففي تقرير نشرته إحدى الصحف البريطانية قبل عامين أن مهندساً عاطلاً عن العمل قام بتفجير أنبوب نفط في الجنوب مقابل 600 دولار، وهذه ليست حالة نادرة أو فردية، وليست عجيبة أيضاً في عراق اليوم الذي يحمل فيه المضطر لافتة في إحدى ساحات بغداد مكتوب عليها (قاتل للإيجار).
قد يعترض القارئ الكريم فيقول أن الذي يقبل المشاركة في القتل والتخريب مقابل أجر هو مجرم وليس بوطني شريف، ولو كان شريفاً لماقبل بتنفيذ هكذا مهمة قذرة. وجوابي هو أنه يجب أن نعرف أن الناس ليسوا على درجة واحدة في الالتزام بالوطنية والقيم والشهامة، أشبه بمقاومة الإنسان للأمراض. فعندما ينتشر وباء ما، لا يصيب كل الناس، بل الأقل مقاومة له. ونفس الشيء ينطبق على الإنسان واستعداده للقيام بالإجرام في حالة تفشي وباء الإرهاب.
وعليه، فإذا ما تم فصل عشرات الألوف من المواطنين من وظائفهم بشكل عشوائي ولمجرد انتماءاتهم السابقة لحزب البعث، فليس من الإنسانية تركهم في أحضان البطالة بلا مورد رزق لعائلاتهم. وفي هذه الحالة واتقاءً لإستغلالهم من قبل منظمات الإرهاب والجريمة المنظمة، تضطر الحكومة إحالتهم على التقاعد المبكر وحرمان البلد من خدماتهم ودفع نفقات معيشتهم دون مقابل. وبذلك نضيف آلافاً أخرى إلى قائمة العاطلين، في وقت بكون فيه البلد بأشد الحاجة إلى الأيدي العاملة للمشاركة في عملية الإعمار والبناء.
فالبطالة في العراق تبلغ الآن في حدود 20 إلى 30% من القوى العاملة، وهناك نحو مليون أرملة و وملايين المعوقين، ونحو ثلاثة ملايين من الأيتام نتيجة للحروب العبثية للسلطة البعثية السابقة، والإرهاب البعثي-ا لقاعدي بعد السقوط، إضافة إلى ضحايا المليشيات الحزبية (الشيعية والسنية)، كما وهناك الملايين من العوانس. ومن هنا فإن فصل الألوف من البعثين السابقين من وظائفهم سيزيد الطين بلة، ويفاقم في المشكلة المتفاقمة أصلاً. وإذا ما أخذنا في الحسبان أن عدد أيام العمل في الأسبوع هو خمسة أيام، ونضيف إليها عشرات الأيام من العطل والأعياد الرسمية والدينية وإنشغال الملايين باللطم والتطبير وتسيير مواكب العزاء على مدار السنة، إضافة إلى اعتماد 60% من الشعب على البطاقات التموينية التي بدأت تحت ظروف الحصار بعد الغزو الصدامي للكويت، نعرف من كل ما تقدم، أن قطاعاً واسعاً من هذا الشعب مصاب بالعوق، وسيفقد القدرة على العمل ويميل إلى الإتكالية في معيشته. وهذا يعني أن الشعب العراقي يسير بخطى متسارعة نحو الإنهيار الاقتصادي ومهما بلغت وارداته النفطية، خاصة في ظل تفشي الفساد الإداري.
وبناءً على كل ما تقدم، أرى من واجب المسؤولين في السطة، المركزية والمحلية، أن تعيد النظر في هذا الإجراء العشوائي والاعتباطي في فصل البعثيين السابقين وأخذ البريء بجريرة المذنب، الذي من شأنه جلب المزيد من الكوارث. والمطلوب تأهيل هذا العدد الكبير من البعثيين السابقين ودمجهم في المجتمع والإستفادة من خبراتهم بشكل إيجابي وبناء بدلاً من فصلهم وتحويلهم إلى مصدر لتجنيد الإرهاب. والفقر كما هو معروف أساس البلاء والرذيلة، والذي قال عنه أبو ذر الغفاري: "إنى لأعجب لرجل لا يجد قوت يومه ثم لا يخرج على الناس شاهرا سيفه".
ربما يرى البعض ندائي هذا مناقضاً لموقفي من مشاركة البعثيين في العملية السياسية. وجوابي هو: كلا، ليس هناك أي تناقض، فأنا ضد مشاركة البعثيين الذين ارتكبوا الجرائم بحق شعبنا، سواء قبل السقوط أو بعده، والذين مازالوا يمجدون البعث ويروجون له. فهؤلاء لا يريدون المشاركة من أجل إنجاح العملية السياسية، بل من أجل تخريبها، وهدفهم النهائي هو إعادة سلطة البعث كاملة وإلغاء كل ما تحقق من منجزات للشعب العراقي.
لذلك أهيب بالمسؤولين أن يعيدوا النظر في هذا الإجراء التعسفي، ووقفه فوراً والعمل على كسب هؤلاء البعثيين السابقين ودمجهم بشعبهم وإشراكهم في بناء العراق الجديد بدلاً من دفعهم في اتجاه الإرهابيين.
العنوان الإلكتروني للكاتب: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
الموقع الشخصي للكاتب |