بقلم: القس/ رفعت فكري سعيد
ما يحدث في مصر من اعتداءات من بعض المسلمين على بعض المسيحيين, وما حدث في نجع حمادي من جريمة بشعة ليلة الاحتفال بعيد الميلاد المجيد تُعد بامتياز قتلاً على الهوية, وما حدث في ماليزيا من اعتداءات على كنائس, وما يحدث في نيجريا من مشاحنات واعتداءات من المسلمين على المسيحيين, وما يقوله اسامة بن لادن من تهديدات للولايات المتحدة الأمريكية, وما قام به عمر فاروق عبد المطلب النيجيري الأصل الذي كان يبغي تفجير طائرة أمريكية.
كل هذه الأحداث وغيرها الكثير والكثير من حوادث العنف والإرهاب تؤكد أن هناك أصولية دينية, ومشكلة الأصولية الدينية هي إحدى المشكلات الكبرى التي تؤرق العالم من حولنا اليوم ولاسيما بعد أحداث ذلك الثلاثاء الأسود 11/9/2001 الذي شهد إعتداء صارخاً من الأصولية الدينية على الحضارة الإنسانية لذا فإن معركة التنوير أو التحرر من الدوجماطيقية -ذلك النهج الفكري القائم على التزمت والإيمان المطلق بامتلاك الحقيقة المتحجرة المطلقة- هي معركة المستقبل، معركة كل المثقفين العرب, وكل مثقف عربي لا يعتبر مشكلة الأصولية بمثابة المشكلة الأساسية لعصرنا الحاضر فليس في عداد المثقفين على أي حال!!
ونستغرب كيف أن الكم الأكبر من المثقفين العرب لا يعيرون هذه المشكلة الاهتمام الذي تستحق، ولا يرون فيها مشكلة على الاطلاق على الرغم من وحشية الحرب التي يشنها الأصوليون العرب في البلدان العربية والأوروبية وغيرها على المجتمع المدني وعلى روح العصر الحديثة؟! كيف لايقلق المثقفون العرب وقد دق الأصوليون إسفيناً عميقاً في صميم الوحدة الوطنية داخل الوطن الواحد وزرعوا الفتنة والبلبلة؟!
إنه لمن المؤسف أن المثقفين ظلوا يغضون الطرف عن هذا التيار بحجة أنه شعبي أو يمثل الشعب! ولم يستشعروا حتى هذه اللحظة بضرورة (محاربة) الأصوليين المتزمتين على أرضيتهم بالذات أرضية التراث الديني وكيفية فهمه وتفسيره، فبدلاً من القراءة المنغلقة، بل والإرهابية التي يقدمها المتزمتون للتراث كان ينبغي أن يوجد المفكرون قراءة جديدة لنفس التراث كما فعل فلاسفة التنوير الأوروبي مع تراثهم المسيحي.
فلو إن فلاسفة التنوير في أوروبا قالوا بينهم وبين أنفسهم: إن معظم شعبنا أصولي أو يتبع الأصوليين في تفسيرهم للدين، وبالتالي فينبغي علينا أن نلحق بالشعب ونستسلم للمقادير.. لو قالوا ذلك لما حصل أي تطور في أوروبا. كانت أوروبا ستظل جاهلة، متخلفة، تتخبط في حروبها الأهلية والمذهبية حتى هذه اللحظة، فالوفاء للشعب يعني إنقاذ الشعب من تصوراته الخاطئة، ومن أحكامه المسبقة المكرسة منذ مئات السنين لا اتباعه بشكل أعمى. هنا يكمن الفرق بين المثقف ورجل الشارع، وعلى هذا النحو فهم فلاسفة التنوير مهمتهم ورسالتهم ولذلك فإنهم لم يدغدغوا عواطف الشعب أو غرائزه، وإنما صارحوه بالحقيقة، وهكذا أنقذوا شعوبهم من وهدة التخلف والانحطاط، وارتفعوا بها إلى مستوى الحضارة والتمدن والرقي.
هل يستطيع مثقف عربي واحد أن يقول إن العصر الذي نعيشه هو عصر مستنير؟ أقصد العصر العربي بالطبع وليس العصر الأوروبي -لأننا نعاصر الأوروبيين زمنياً لا فكرياً ولا عقلياً- من يجرؤ على ادعاء ذلك؟
لا، إنه عصر الأصولية الظافرة، عصر الضجيج والعجيج، عصر طالبان وبقية الجحافل الزاحفة على التاريخ.
أكثر ما نستطيع قوله هنا أننا لابد أن نحضر من الآن لعصر تنويري مقبل لأولادنا ولحفدتنا.
صحيح إننا قد لا نراه بعيوننا، ولكنه آت لا ريب فيه، فالموجة الحالية سوف تنكسر أو تنحسر عما قريب.
وبانحسارها سوف يبزغ نور جديد يكاد يخطف الأبصار، نور انتظرناه طويلا منذ عدة قرون! ومعروف أن أكبر ظلمة هي آخر ظلمة أي تلك التي تسبق مباشرة انبلاج الفجر فالليل مهما طال والظلام مهما اشتد فلابد لنور الفجر أن ينبلج من جديد!!.
وعلى المدى البعيد لابد أن ينتصر العقل على السيف كما قال نابليون بونابرت. ولعل هذا ماحدث في أوروبا فيكفي أن ننظر إلى القرن الذي سبق مباشرة عصر التنوير أي القرن السابع عشر. فقد كان عصراً لاهوتياً خطيراً.
إنه العصر الذي شهد سيطرة التيار المضاد للإصلاح الديني، العصر الذي حاكم جاليليو، وأجبر ديكارت على الهرب من فرنسا، وأرعب سبينوزا إنه عصر الحروب المذهبية والأهلية التي اجتاحت أوروبا، إنه عصر الإرهاب اللاهوتي الذي لا يقل جبروتاً عن إرهاب طالبان أو بقية الأصوليين الحاليين.
ومع ذلك، فبعده بعشرين سنة فقط، دارت رحى المعركة بين التنويريين والظلاميين وكانت النتيجة لصالح التنوير أي لصالح توليد تفسير جديد للدين. وهو تفسير يدعو للحرية ويقاوم القمع والظلام.
هنا يكمن طريق الخلاص في بلورة فهم آخر للتراث الديني غير الفهم السائد والمسيطر منذ مئات السنين والذي يحاول الأصوليون إقناعنا بأنه هو وحده الصواب.
هكذا انتصرت أوروبا على نفسها، وحلت عقدتها التاريخية المزمنة المتمثلة بذلك الصدام المروع ما بين العقل اللاهوتي والعقل العلمي أو الفلسفي. هذا الصدام مابين لاهوت القرون الوسطى والحداثة فهذا الصدام لم يقل خطورة عن اصطدام الطائرات الانتحارية ببرجي مركز التجارة العالمي في نيويورك!!
إن لاهوت القرون الوسطى أو فقه القرون الوسطى، يسمح لأي جاهل بأن يطلق فتاوى التكفير والتحريم والقتل والذبح.. وتأويل هذا الفقه ونقده يمثل ضرورة ملحة وعاجلة بالنسبة لكل المجتمعات العربية اليوم. ولا يمكن لهذه المجتمعات أن تتقدم إلا إذا نقدته ورفضته لأنه يعرقل حركتها ويصادر حريتها ويقتل إبداعها ويشعرها في كل خطوة تخطوها بالخطيئة والذنب، كما أن هذا الفقه أصبح يشعرنا بالعار والخجل والحرج أمام الآخرين في العالم المتحضر. وهنا لابد من النضال والاستعداد لدفع الثمن وذلك لأن من يظن إنه يمتلك الحقيقة الإلهية يحق له كل شيء، فقد يصل دفاعه عنها إلى حد التضحية بنفسه من أجلها، أو إلى حد قتل الآخرين، وفي كلتا الحالتين فهو يعتقد إنه شهيد ومقبول عند الله..
إن الفتوى الدينية تقدم للأصولي ضمانة شرعية واطمئناناً نفسياً لا يقدر بثمن، ولولاها لما تجرأ على القتل، لولاها لاختل عقله أو لجن بسبب ما يرتكبه من أعمال إجرامية، لهذا السبب نقول بأن نقد لاهوت القرون الوسطى (أو فقه القرون الوسطى) يمثل ضرورة ملحة حالياً ومستقبلاً.
فما دام هذا الفكر الظلامي سائداً ومسيطراً على عقلية الملايين، فلا حل ولا خلاص. وسوف يستمر القتل والذبح باسم الله، وعلى بركة الله إلى ما شاء الله.
إن العالم اليوم يجتاز حرباً عالمية جديدة بين الأصولية الدينية والحضارة الإنسانية ولايعلم سوى الله كم من الزمن ستستغرق هذه الحرب وكم من الضحايا سيسقطون فيها ولايمكن لأحد أن يجزم مقدماً كيف سينتهي الأمر؟ هل بانتصار منظومة القيم الحضارية وانتشارها؟ أم ستتكون في العالم ثنائية قطبية مبنية على توازن الرعب بين الليبرالية والأصولية الدينية؟ أم ستنهار الحضارة الإنسانية كلها على رأس البشر بانتصار الأصولية؟
إن المشكلة مهولة ومخيفة حقاً، ولكن إستئصالها من جذورها يتوقف على مدى اقتناع المثقفين بخطورتها ومدى مساهمتهم في مقاومتها واجتثاثها.
فإذا كان المسيحيون الأوروبيون قد ناضلوا طيلة ثلاثة قرون من أجل التحرر من أصوليتهم، فكم يلزمنا نحن؟
ينبغي أن نعلم أن الاشتباك مع اللاهوت الأصولي ابتدأ منذ لحظة سبينوزا في أواخر القرن السابع عشر، ولم ينتصر فعلاً إلا بانعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني عام 1962-1965م.
هذا يعني أن مشكلة الأصولية شغلت الأوروبيين طيلة ثلاثة قرون تقريباً قبل أن تجد لها حلاً.
إن الأمر ليس سهلا ولكنه يتطلب منا أن نبدأ فورا في الإصلاح وبدحض فكرة توهم امتلاك الحقيقة المطلقة فالأصوليون يتوهمون أن العقيدة الإلهية الوحيدة هي عقيدتهم !! ولذلك كتب المفكر الإيطالي أمبيرتو إيكو، والذي نشرت له مقالة في (اللوموند) داعياً العالم العربي إلى الاطلاع على تجربة الأصوليين المسيحيين في أوروبا، لأنهم لو فعلوا ذلك لاكتشفوا أن غيرهم يعتقد أيضاً، وبنفس القوة، أنه يمتلك الحقيقة الإلهية المطلقة..
هكذا نجد أن المنظور المقارن ضروري جداً للكشف عن نسبية كل التراثات الدينية للبشرية على الرغم من عظمتها وأهميتها.أما الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة دون بقية البشر فيؤدي مباشرة إلى الاستبداد، والتعصب الأعمى، وإلغاء وتكفيركل فكر آخر.. وتكون النتيجة هي الصدام المروع والقتل والذبح وسفك الدماء..
وهنا تكمن المحنة الرهيبة لكل الحركات الأصولية المعاصرة ولا مخرج لنا من هذه المحنة إلا بنشر ثقافة التنوير والقيام فورا بالإصلاح الديني قبل فوات الآوان وقبل أن تقضي الأصولية الدينية على الأخضر واليابس معا, فحينئذ لن ينفع الندم ولن يجدي لطم الخدود!!!.
راعي الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف – شبرا مصر
refaatfikry@hotmail.com |