بقلم: كمال غبريال
عند معالجة حالة التعصب الديني في الساحة المصرية، وما يترتب عليها طوال الوقت من اعتداءات إجرامية على الأقباط، يقع الكثيرون بحسن نية في مجموعة "أخطاء"، عند تقييمهم للإشكالية ومسبباتها. . وهي نفس ما يقترفه البعض متعمداً وبسوء نية، لتكون التسمية الحقيقية لما يرتكبون "خطايا"، وليس مجرد "أخطاء". . نهدف في سطورنا هذه بالطبع إلى مخاطبة أخوة الوطن من حسني النوايا، لنوضح لهم بعضاً مما يكون قد خفي عليهم، نتيجة للتعتيم أو التضليل المتوفر في الساحة المصرية، أو نتيجة لتعقد الموضوع وتشابك مكوناته، كما تستهدف هذه السطور أيضاً بعضاً من الأبرياء، الذين استدرجهم سيئوا الطوية ورعاة الكراهية، ليتراصوا بين صفوفهم، تحت تأثير نعرة قبلية، تنتصر للأقرب ظالماً كان أم مظلوماً!!
بداية هناك شرك أو مطب جاهز لاصطياد من يتصدى لتحليل حالة الاحتقان الطائفي القائمة، وهو تصور الأمر باعتباره ساحة لاشتباك أو صراع أو تنافس بين طرفين، بما قد يترتب عليه إما أن يأخذ جانب الطرف الذي ينتمي إليه دينياً، سواء لنزعة قبلية عنصرية مقيتة، أو حتى ينساق دون أن يدري للعاطفة والتعاطف الطبيعي مع الجانب الذي ينتمي إليه. . وإما أن يحاول اتخاذ موقف حياد علمي، يضل الطريق إليه منذ البداية، بأن ينصب القائم بتحليل الإشكالية نفسه حكماً بين فريقين، ليكون ضحية تصور أن المقاربة العلمية المحايدة لابد وأن تتضمن إدانة ولو جزئية لطرفي الصراع. . فالخطأ هنا يكون مزدوجاً، فلا المقاربة العلمية تقتضي بالحتم أن تتضمن خلاصتها إدانة للطرفين، كشهادة تقدمها للتدليل على الحياد، بغض النظر عن الحقائق العلمية والواقعية، ولا موضوع الاحتقان الطائفي هو بسذاجة تصور الأمر صراع بين طرفين!!
الحالة التي أمامنا هي حالة فشل مجتمع متنوع الانتماءات الدينية والسياسية والثقافية عموماً، في الوصول إلى حد أدنى مشترك، يكفل القدر المطلوب لتماسك المجتمع، وفي نفس الوقت فشل في استيعاب وقبول التنوع. . يعني هذا أن البحث العلمي والجاد، محاولة لتصحيح ما ينتاب الأمة المصرية الآن من بلبلة واختلاط للرؤى، يقتضي ألا يؤخذ الأمر كتعداد قوائم اتهامات ينبغي أن تكون متوازنة بين الطرفين، وإنما المنهج الصحيح هو الدراسة الأمينة لمعالم الحالة، لإعادة ترتيب العلاقات على أسس جديدة، تعلي من قيمة المواطنة، ليس فقط من قبيل المساواة وإعطاء كل ذي حق حقه، وإنما أيضاً والأهم لكي نحصل في النهاية على حالة وطنية صحية، تصلح للانطلاق منها، نحو حداثة تعثرنا طويلاً في السعي باتجاهها.
هكذا تكون أي محاولات لتجميل مقاربات التصحيح لترضي جميع الأطراف، بادعاء أخطاء هنا أو هناك، دونما سند من الحقائق على الأرض، أو بالتضخيم من مظاهر بسيطة، وفي المقابل التهوين من عناصر خطيرة. . يكون هذا بمثابة فشل في فك ألغاز معادلة المجتمع وإشكالياته، ولن تعدو هذه المقاربات والحالة هذه أن تكون مجرد ضوضاء، تضاف للساحة العامرة أصلاً بالضوضاء، إن لم تندرج ضمن محاولات التستر والتزييف والتضليل.
ينطبق ما سبق أيضاً على من يتحدثون عن "تعصب قبطي"، في مقابل "تعصب إسلامي"، عند مناقشتهم لحوادث الاعتداءات الدموية على الأقباط وكنائسهم ومتاجرهم. . فهذا خلط وفشل معيب في مقاربة الموضوع، إذ يجوز الحديث عن "تعصب قبطي" عند دراسة الحالة الثقافية لمكونات الشعب المصري عموماً، وأثناء محاولاتنا نشر ثقافة مختلفة تتناسب مع روح العصر والمرحلة الحضارية، لكن إذا كنا أمام حوادث قتل وتخريب، يقوم بها غوغاء بتحريض من عناصر متأسلمة، سواء كانوا أئمة مساجد أو غيرهم، لتقوم الغوغاء بحملات عنترية خسيسة على أقباط مسالمين، فهل يجوز عندها الحديث عن "تعصب قبطي"، في غياب ولو حادثة واحدة قام فيها "المتعصبون الأقباط المتخيلون" باعتداءات على مواطنين مسالمين (أو غير مسالمين) من المسلمين!!
إذا كان الأقباط في جميع ما مر بالبلاد من حوادث، لا يقومون حتى بالدفاع الشرعي عن النفس، على الأقل ريثما تنجدهم قوات الأمن، التي تأتي دائماً على مهل، بل يتقنون دور المفعول به فاقد الحول والقوة، بصورة لا نظن لها مثيلاً إلا في مصر، فهل من المنطقي أو المنصف بعد ذلك أن نتحدث في هذا المجال عن "تعصب قبطي"؟!!
وسط محيط الفضائيات التليفزيونية مترامي الأطراف، هناك عشرات القنوات التي تسفه من المسيحية والمسيحيين وتحرض على كراهيتهم، تبث جميعها على القمر المصري "نايل سات"، وتعتبر قتلهم نوعاً من الجهاد في سبيل الله. . في المقابل هناك شخص واحد خارج عن سيطرة الكنيسة، في قناة تبث من قبرص فيما نظن، يقوم بمهاجمة الإسلام، ولا يحرض على القتل أو يدعو للكراهية بين الناس. . السؤال الآن هو: لماذا لم تدفع عشرات القنوات الإسلامية الأقباط للقيام بأعمال انتقامية ضد المسلمين، ولن نقول لماذا لم نر أثراً لكلام الشخص الوحيد الذي يهاجم الإسلام، في صورة هجمات جهادية للأقباط ضد المسلمين؟!!
وإذا كان هناك شخص واحد وحيد أيضاً، يكتب على صفحات الإنترنت كلاماً ضد مسلمي مصر، معتبراً إياهم غزاة وما شابه من خزعبلات وتخريفات، ويرسل آلاف رسائل الإنترنت بهذا المعنى، فهل يصح اعتبار هذا الكلام دليلاً على "تعصب قبطي" وراء أحداث العنف، دون تسجيل حادثة واحدة تدل على إصغاء الأقباط وتشبعهم بالروح التي تسود في هذه الرسائل الإلكترونية؟!!
نعم عند الحديث عن معالم الثقافة المصرية لدى مختلف مقومات الأمة المصرية، لابد وأن نبحث كل صغيرة وكبيرة، على نضع كل شيء في حجمه الطبيعي، دون تهويل أو تهوين، كل هذا شيء، ودراسة أحداث عنف دموية شيء آخر تماماً.
من أراد الفهم فيستسطيع بسهولة أن يفهم، أما من ينشد المغالطة لأسباب هو أدرى بها، فلن تفيده أي محاولات للشرح.
مصر- الإسكندرية
kghobrial@yahoo.com |