د. خالد منتصر |
الأعمار بيد الله ولكن لو فرضنا أن صلاح جاهين كان قد عاش معنا حتى اليوم لاحتفلنا معه بعيد ميلاده الثالث والثمانين وربما كتب رباعية على التورتة البيت الأول منها أنا شاب عمره تلاتة وتمانين سنة، كان سيرقص ويغنى وكان سيبكى أيضاً ويطفئ الشموع بالدموع، كانت هذه الجلسة قبل وفاته بثلاث سنوات تقريباً، كان جاهين فى أقصى حالات الاكتئاب، انسحب قبل انتهاء خطب الرثاء، كان كمن يقول «زهقت خطب.. كفاية.. اتخدعت والناس اتهمتنى إنى خدعتهم.. كنت مؤمن بالخطب لغاية ما اكتشفت إننا ماتجاوزناش مرحلة الخطب.. وإنى كنت باجرى ورا سراب، وباروج لوهم»، تطاول عليه أحد الحاضرين الشباب محملاً إياه نتيجة ما نحن فيه!!، دمعت عيناى وأنا لا أعرف هل أبكى على أمل دنقل الذى هزمه السرطان، أم أبكى على صلاح جاهين الذى قهره الاكتئاب!
مثلما كان نموذج مريض الكبد الذى يحكيه لنا أساتذتنا فى كلية الطب هو عبدالحليم حافظ، كان نموذج الاكتئاب الذى يساعدنا على فهم المرض هو صلاح جاهين، كنت أحب الطب النفسى، وأحب جاهين أكثر، كنت أحفظ تشخيص حالته «اضطراب وجدانى ثنائى القطب»، اسم صعب، ووصف علمى جاف، ولافتة باردة لا تخبرنا نحن الطلبة عن العبقرية والانطلاق والتميز الذى يختزنه هذا المريض، حالات انبساط وموجات حزن، قطبان ما بين البهجة حتى شاطئ الرقص وتخوم التنطيط والانطلاق، والحزن حتى حافة الانتحار وهوة الوحدة والتشرنق على الذات، كنا نعرف رفاقه من المبدعين فى رحلة الاكتئاب، كنا نعرف من الساسة، تشرشل الذى أطلق على المرض اسم الكلب الأسود، وأبراهام لينكولن وروزفلت.. كنا نعرف من الفنانين والمبدعين عدداً لا يحصى، منهم كافكا وكيتس وجوته وفان جوخ وإزرا باوند وهيمنجواى وفيرجينياوولف وشومان ومى زيادة وصلاح عبدالصبور وتشايكوفسكى وألبير كامى ومارلين مونرو، كنا نعرف أن الاكتئاب ليس وليد اليوم، فقد ورد فى العهد القديم قصة شاؤول الذى أصابته الأرواح الشريرة بحالة اكتئاب عقلى دفعته إلى الانتحار، ومن يقرأ مسرحية هاملت لشكسبير يقرأ وصف والد أوفيليا لهاملت عندما صدته ابنته التى كان يهيم بها البطل الدنماركى، يقول شكسبير: «فلما صدته عن نفسها، أصابه الأسى، ثم امتنع عن الأكل، ثم حرم النوم، ثم أصيب بالضعف، ثم ابتلى بالخفة، وبهذا التردى والهبوط بلغ درك الجنون الذى يهذى الآن فيه ويبكينا جميعاً عليه»، ونحن دائماً نبكى على عباقرة الاكتئاب بعد فوات الأوان. نقلا عن الاعلامي الطبيب |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت | عدد التعليقات: ٠ تعليق |