بقلم: د. صبرى فوزى جوهره
تعرضت فى مقال سابق لفشل الدولة فى مصر, اقدم دول العالم و اكثرها رسوخا. و دعوت الى التفاف المصريين جميعا نحو هدف قومى حقيقى و ملزم و هو ازالة انقاض الحاضر و بناء دولة حديثة على دعائم الديموقراطية و العدل و العلم. كما اقترحت ان اول اعمال ازاحة الانقاض هى عدم التسليم باى شكل بحتمية بقاء الامور على ما هى عليه و اعنى بذلك استمرار الرئيس الحالى فى منصبه بعد انتهاء فترة انتخابه الحالية, و رفض احلال نجله جمال مكانه فى موقع رئاسة الدولة. بذلك يتم القيام بالجزء الاكبر من التطهير يليه بالطبع التخلص من المنتفعين بالنظام و الخائفين من الوقوع تحت طائلة المسائلة متى احتجبت القوة التى كانت تساندهم و كانوا يعملون على بقائها.
اما عن البناء فيجب ان توضع له اسس عميقة اولها اجراء استفتاء شعبىعام للاختيار بين بقاء "النظام" الجمهورى, واعادة النظام الملكى الدستورى. و فى هذا المجال, يجدر بنا ان نتذكر الحقائق التالية:
1. ان اسقاط النظام الملكى جاء نتيجة قرار فردى من حاكم مطلق استند فى شرعيته على قوة المدافع و ليس على ارادة الشعب, اراد ان يستمر فى حكم البلاد بلا منازع الى ان ينتزعه الموت. لم تقعده اعظم الهزائم التى منيت بها مصر منذ الغزو العثمانى عن التمسك برئاسة الدولة.
2. جاء هذا الحاكم المطلق الى الحكم بوسيلة غير شرعية, ثم خدع المصريين بادعائه ان ما سمى اولا بحركة الجيش التى ارتقت بقدرة قادر الى مراتب "الثورة", ادعى ان لهذا الانتهاك الواضح لشرعية الحكم له هو "شرعية ثورية" اخترعها فخامته و اللى مش عاجبه يضرب باحذية السوقى كما حدث لفقيه القانون العالمى عبد الرزاق السنهورى باشا بمكتبه بدار القضاء العالى. فاصبح هذا الحدث الجلل مصدرالشرعية الثورية و نبراسها.
3. قدم البلطجية اهدافا سته "لحركتهم المباركة" اصبحت هى العقد الجديد بين "شرعيتهم" و بين جموع الشعب المخدوع و المغلوب على امره.
4. كان من المحتم على البلطجية استرضاء الغوغاء و السوقة و اثارتهم على النظام الملكى و "الاقطاعيين" و رجال الدولة العظام الذين قدموا لمحاكمات صورية كان "قضاتها" من بين صفوفهم من العسكر ساقطى الكفائة و عديمى المعرفة بادنى قواعد العدالة و متطلباتها.
5. بعد انقضاء اكثر من نصف قرن, وهى فترة من الزمن قامت فيها اليابان من الرماد الذرى و انتفضت فيها المانيا من الخراب الى ريادة اكثر قارات العالم تحضرا, اصبح من الجلى ان البلطجية سحلوا مصر من كارثة الى اخرى و من فشل الى فشل و ان احوال من نجحوا فى اكتساب تأييدهم عند "انبلاج نور الثورة" قد وصلت الى حضيض لا مثيل له ليس فقط تحت الحكم الملكى بل تحت حكم العبيد من المماليك و ولاة خلفاء آل عثمان!
6. من الواضح مما سبق ان شروط عقد البلطجية الستة التى وعدوا الشعب بها لم تستوفى بل ان العناء المفترض قديما قد اصبح بؤسا كاسحا اصاب كافة طبقات المجتمع المصرى.
7. لم نسمع خلال حكم البلطجية سوى ايات المديح و الشكر لهم لما جلبوه علينا من كوارث ذلك لان هذه هى طبيعة هذا الوحش: السرقة بقت اشتراكية و الهزيمة دلعوها و سموها نكسة و الهلوسة تدين و الفوضى و التقهقر تعزى الى مؤامرات الصهيونية التى نعلم بها جيدا و بالرغم من ذلك نستسلم لايحاآتها و نشجعها على المزيد من العبث بنا! ما خابوش فى حاجة واحدة حسب ابواق دعايتهم, بينما الشعب بل و العالم باسره يتعجب من سرعة الانحدار و الانهيار الواضح.
من هذا المنطلق, اعتقد ان واجبنا نحو مصر و نحو انفسنا ان نعيد النظر فى نظام رئاسة الدولة. و لنتسائل ماذا لو استمرت احوال مصر على ما كانت عليه قبل كارثة 23 يوليو 1952؟ كم من سعد باشا زغلول و مصطفى النحاس و فهمى النقراشى و مكرم عبيد وويصا واصف و غيرهم كانوا فى سبيلهم لادارة امور الوطن و كم من وزارة كانت ستسقط لعدم الوفاء بوعد اخذته على نفسها امام الشعب و كم من وزير استبعد لفساده او عدم كفائته عندما يلقى الاعلام الحر اضواءه عليها. كانوا سيعملون بتكليف من ملك البلاد الذى اصبح اكثر خبرة و ثفة فى التعامل مع الساسة الذين يختارهم الشعب بكامل حريته.
و لا اريد ان القى باللائمة كاملة و تماما على البلطجية بمفردهم, بل ان الامانة تحتم ان اشير الى ان المصرى قد اعتاد لخمسة الاف عام او اكثر ان يضع فرعون عاليا لا يمس, فوق الشبهات. هذه هى الحقبقة الى حد بعيد. و لكن كانت هناك لحظات استثناء قليلة و متباعدة عبرتاريخنا الطويل انتشرت خلالها الفوضى و انعدم التوازن و الاستقرار (ماعت). عندئذ, استبعد فرعون بآخر فى غمرة من العنف و الفوضى. ثم يقسم فرعون الجديد على الحفاظ على "ماعت" و توخى اصولها الملزمة . اننا شعب يحب ملوكه و اعتاد على رئاستهم و لا يرضيه ان يمس رمزهم بسوء و ان كان كلاما, لا يقبل المصرى ان يقوده مخلوق"مؤقت" (ephemeral)فى بناء الحضارة و متابعة التقدم. المصريون ملكيون بطبيعتهم. لذا كان من المحتم ان يبقى الملك فوق الجميع و يتولى رجال الدولة و السياسة ادارة شئون البلاد و يكونوا موضع مسائلة الشعب و الملك ايضا اذا لزم الامر, يستبدلون ان فسدوا او فشلوا و يبقى الملك على العرش لا يمس الا للشديد القوى.
لذا كان من المحتم ان نبدأ البناء بأخذ رأى المصريين جميعا, ربما للمرة الاولى فى تاريخهم, عما اذا كانوا يفضلون النظام الملكى بتوريثه الشرعى الرصين المهاب, اما "النظام الجمهورى التوارثى" الحالى المبنى على خداع الشعب و قهره و اذلاله بالاضافة الى المناورات و المؤامرات و استباحة الفساد و العدالة و سوء استخدام السلطة.
النظام الملكى سيوفر التقدم و الاستقرار. لنتذكر ان الاستقرار الحقيقى المؤدى الى التقدم لا يكون على درجة الصفر. |