CET 00:00:00 - 20/01/2010

مقالات مختارة

بقلم: د. علاء الأسواني

فى عام 1923 تشكلت لجنة لوضع أول دستور مصرى.. إلا أن الوفد (حزب الأغلبية آنذاك) أعلن مقاطعته لهذه اللجنة لأنها تشكلت بالتعيين وليس بالانتخاب الحر. وبالرغم من ذلك فقد ضمت اللجنة مجموعة من أفضل العقول المصرية وشهدت سجالا سياسيا وفكريا رفيعا حول البنود المقترحة للدستور المصرى.. وقد ارتفعت أصوات تنادى بالتمثيل النسبى للأقباط، بمعنى أن يكون للأقباط دائما نسبة معينة من المقاعد فى المجالس النيابية والمحلية. تحول الاقتراح بسرعة إلى قضية رأى عام كبرى.. المؤيدون للتمثيل النسبى كانوا يريدون إنصاف الأقباط وتفويت الفرصة على التدخل البريطانى فى مصر بحجة حماية الأقليات، أما المعارضون فكانوا يرفضون اعتبار الأقباط أقلية دينية بل يعتبرونهم مواطنين مصريين يجب أن يتم تقييمهم بمعيار الكفاءة وحدها.. المدهش أن معظم من عارضوا التمثيل النسبى كانوا أقباطا.. فبالإضافة إلى الدكتور طه حسين المسلم عارض الاقتراح المفكر سلامة موسى والأستاذ عزيز ميرهم، الذى جمع توقيع خمسة آلاف قبطى من المعارضين والقمص بطرس عبدالملك رئيس المجلس الملى العام ورئيس الكنيسة المرقسية الكبرى وأقباط آخرون كثيرون. وهكذا سقط الاقتراح ليسجل الأقباط واحدة من أعظم الوقائع فى تاريخنا الحديث عندما رفضوا التمتع بامتيازات طائفية تحت أى مسمى..

تذكرت هذه الواقعة وأنا أقرأ عن مذبحة نجع حمادى البشعة، التى راح ضحيتها ستة أقباط تم قتلهم بالرصاص أثناء خروجهم من الكنيسة يوم العيد.. السؤال لماذا رفض الأقباط منذ 90 عاما أن يتمتعوا بأى امتياز طائفى، ولماذا يذبحون اليوم فى ليلة عيد الميلاد على أبواب الكنائس.؟!... هذه فى رأيى بعض أسباب الأزمة:
أولا: يؤكد لنا تاريخ مصر أن الفتنة الطائفية تنتشر دائما فى أوقات الإحباط القومى. فى بداية القرن العشرين انتابت المصريين حالة من اليأس بسبب الاحتلال البريطانى سرعان ما تحولت إلى فتنة طائفية قبيحة (لعبت فيها الأصابع البريطانية كالعادة)، ووصلت إلى ذروتها منذ 1908 وحتى 1911 ولكن ما أن جاءت ثورة 1919 حتى انصهر فيها الجميع بل إن بعض الأقباط مثل القمص سرجيوس كانوا من دعاة الفتنة فتحولوا مع الثورة إلى أكبر المدافعين عن الوحدة الوطنية. فى مصر الآن الكثير من الإحباط والكبت والفقر والظلم، كل هذه العوامل تؤدى بالمصريين إلى التناحر الطائفى.. تماما كما تؤدى بهم إلى العنف والجريمة والتحرش الجنسى.

ثانيا: فى عام 1923 عندما رفض الأقباط الامتيازات الطائفية وبالرغم من الاحتلال البريطانى، كانت مصر تناضل لتؤسس دولة مدنية ديمقراطية يتساوى فيها المواطنون جميعا أمام القانون.. كانت هناك قراءة مصرية متسامحة للإسلام أسس لها الإمام المصلح محمد عبده (1849ــ 1905). الذى استطاع أن يخلص العقل المصرى من الخزعبلات والتعصب. فشهدت مصر نهضة حقيقية فى كل المجالات مثل تعليم المرأة والمسرح والسينما والأدب ولكن منذ نهاية السبعينيات، بدأت مصر تعرف فهما آخر للاسلام، الفكر السلفى الوهابى المتشدد الذى اصطلح الفقهاء المصريون على تسميته بفقه البداوة.. وقد ساعد على انتشار الفكر الوهابى عدة عوامل، أهمها ارتفاع سعر النفط بعد حرب أكتوبر مما أعطى للجماعات السلفية قدرات مالية غير مسبوقة استعملتها فى نشر أفكارها فى مصر والعالم، كما هاجر ملايين المصريين للعمل فى دول الخليج وعادوا بعد سنوات مشبعين بالأفكار الوهابية، وقد انتشر هذا الفكر برعاية مؤكدة من أجهزة الأمن السياسى فى مصر، التى تعاملت دائما مع مشايخ السلفيين بتسامح كامل بعكس القمع الشديد، الذى تمارسه ضد الإخوان المسلمين.. والسبب فى ذلك أن السلفية الوهابية، تساعد على ترسيخ حكم الاستبداد لأنها تدعو المسلمين إلى طاعة الحاكم وتحرم الخروج عليه ما دام مسلما..

المشكلة إن الأفكار الوهابية تحمل رؤية معادية للحضارة بمعنى الكلمة، ففى ظلها يكون الفن حراما والموسيقى والغناء حراما والسينما والمسرح حراما والأدب كذلك.. الفكر الوهابى يفرض على المرأة العزلة خلف النقاب أو البرقع التركى، الذى تحررت منه المرأة المصرية منذ مائة عام.. وهو يعلن بوضوح أن الديمقراطية حرام لأنها تعنى حكم الشعب، بينما الوهابيون يريدون تطبيق حكم الله (وفقا لإرادتهم بالطبع)..
الأخطر فى الفكر السلفى الوهابى أنه ينسف فكرة المواطنة من أساسها.. فالأقباط فى نظرهم ليسوا مواطنين وإنما أهل ذمة، أقلية مهزومة مستسلمة فى بلاد فتحها المسلمون. كما أنهم كفار مشركون قريبون من كراهية الإسلام والتآمر عليه، لا يجوز الاحتفال بأعيادهم ولا مساعدتهم فى بناء الكنائس لأنها ليست دور عبادة وإنما أماكن للشرك بالله. ولا يجوز للنصارى فى نظر الوهابيين أن يتولوا الحكم أو قيادة الجيوش مما يعنى انعدام الثقة فى ولائهم للوطن.. وكل من يتابع صورة الأقباط فى عشرات القنوات الفضائية ومواقع الإنترنت السلفية لابد أن يحس بحزن. فهذه المنابر التى يتابعها ملايين المصريين يوميا تعلن بوضوح كراهيتها للأقباط واحتقارها لهم وكثيرا ما تدعو إلى مقاطعتهم وعدم التعامل معهم..

الأمثلة بلا حصر لكنى سأورد هنا ما قرأته فى الموقع السلفى الشهير «حراس العقيدة»، الذى خصص موضوعا كاملا بعنوان: «لماذا المسلم أفضل من القبطى؟!»، فكتب ما يلى: «أن تكونى فتاة مسلمة قدوتك زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم اللائى فرض عليهن الحجاب أفضل من أن تكونى مسيحية قدوتك الزوانى».. «أن تكون رجلا مسلما مجاهدا تدافع عن العرض والدين أفضل من أن تكون مسيحيا سارقا مغتصبا قاتلا للأطفال». «أن تكون مسلما قدوتك محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام أفضل من أن تكون مسيحيا قدوتك بولس الكذاب وأنبياء زناة».

مع انتشار كل هذا العداء للأقباط ألا يصير الاعتداء عليهم طبيعيا بل ومحتوما..؟!..
ثالثا: انتقلت عدوى التطرف من المسلمين إلى الأقباط فنشأت أجيال منهم منعزلة عن المجتمع وتورط بعض الأقباط فى خطاب التعصب والكراهية ذاته وليس هناك أشهر من القس زكريا بطرس الذى تفرغ للطعن فى الإسلام وإهانة المسلمين (والذى لا أشك فى قدرة الكنيسة على إسكاته فورا لو أرادت). لقد أسبغت الكنيسة حمايتها الكاملة على الأقباط لكنها زادت من عزلتهم وتحولت من سلطة روحية إلى حزب سياسى يتفاوض باسم الشعب القبطى (تأمل دلالة التعبير).. وخوفا من صعود الإخوان المسلمين أعلنت الكنيسة على لسان كبار مسئوليها، قبولها التام لفكرة توريث الحكم من الرئيس مبارك إلى ابنه جمال.. هذا الموقف، فضلا عن كونه يتناقض مع التاريخ الوطنى العظيم للكنيسة، فانه يلحق بالأقباط أشد الضرر لأنه يقدمهم وكأنهم عملاء للنظام المصرى ضد بقية المصريين.. كما أن بعض أقباط المهجر، فيما يبدو، لم يتعلموا شيئا من دروس التاريخ فقرروا الارتماء بكل قوتهم فى أحضان الدول الأجنبية التى لم ترد الخير لمصر قط، والتى رفعت دائما شعار حماية الأقليات كذريعة لأطماعها الاستعمارية.. أقباط المهجر لهم مطالب، عادلة فى معظمها لكنها للأسف طائفية تماما، بمعنى أنها تريد حل مشكلات الأقباط بمعزل عن مشكلات الوطن.. إن أقباط المهجر يفعلون اليوم عكس ما فعله أجدادهم العظام الذين رفضوا التمثيل النسبى عام 1923. إنهم لا يطالبون بالعدل والحرية للمصريين جميعا وإنما يلحون فى تحقيق امتيازات طائفية لهم فقط وكأنهم يقولون للنظام المصرى، «أعطنا نحن الأقباط الامتيازات التى نطلبها ثم افعل ببقية المصريين ما تشاء فإن الأمر لا يعنينا».

.. إن مذبحة نجع حمادى البشعة لا يجوز أن نراها إلا بطريقة واحدة: «إن مواطنين مصريين قد قتلوا يوم العيد وهم خارجون من الصلاة».. إن الأبرياء الذين سقطوا قتلى وهم يتبادلون تهانى العيد.. مصريون مثلى ومثلك، عاشوا معنا وحاربوا معنا ودافعوا عن الوطن بدمائهم.. إنهم مصريون، يتكلمون ويفكرون ويحلمون مثلنا تماما.. إنهم نحن.. والذى قتلهم ليس من أطلق الرصاص عليهم.. وإنما قتلهم نظام فاسد مستبد جثم على صدور المصريين ونهب أموالهم وقمعهم ودفعهم إلى اليأس والتطرف والعنف..
.. الديمقراطية هى الحل..

نقلا عن الشروق

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع