CET 09:03:49 - 13/01/2010

مقالات مختارة

بقلم: احمد عبد المعطي حجازي

اذا كان حقا أن المثقفين المصريين الذين دافعوا عن حقهم في التفكير والتعبير‏,‏ وتصدوا للادعياء وقطاع الطرق الذين عينوا أنفسهم حماة للدين والفضيلة والنظام‏,‏ 
 ودأبوا علي مهاجمة الكتاب والفنانين والمفكرين وتكفيرهم والانتقاص من حقهم في ممارسة نشاطهم العقلي‏,‏ وفرضوا رقابتهم الدائمة عليهم‏,‏ وساقوهم الي المحاكم متهمين بأشنع التهم ـ أقول اذا كان حقا أن المثقفين المصريين أخطأوا وخرجوا في نظر البعض علي القانون لأنهم فكروا بحرية وعبروا بحرية‏,‏ ولأنهم تصدوا لهؤلاء الذين وقفوا في وجوههم من المتكسبين بالسياسة المتمسحين بالحكام المتاجرين بالدين ـ اذا كان حقا أن حرية التفكير صارت خطأ‏,‏ وأن مقاومة التطرف أصبحت جريمة يعاقب عليها القانون‏,‏ فالقضية الآن ليست قضية أفراد متنازعين يمكن أن يفصل فيها القضاء‏,‏ وانما هي أكبر من ذلك وأخطر بكثير‏,‏ وما علينا إلا أن نرجع خطوة للوراء لنخرج من إطار النظرة الجزئية ونري واقعنا الراهن في أبعاده المختلفة فندرك أن هذه الدعاوي التي رفعت علي بعض الكتاب المصريين ليست جديدة‏,‏ وليست مرفوعة علي كتاب بعينهم أو أعمال بالذات‏,‏ وانما هي مرفوعة علي مصر كلها‏,‏ نعم‏,‏ علي مصر كلها‏,‏ وعلي كل ما أنجزته في هذا العصر الحديث‏,‏ في العلم والدين‏,‏ والأدب والفن‏,‏ والسياسة والاجتماع‏,‏ ومن هذه الحقيقة التي لايمكن تجاهلها أناقش القضية وأضعها كما أراها أمام القراء عامة وأمام مؤتمر المثقفين الذي دعا له وزير الثقافة وشكل لجنة تنظر في جدول أعماله وتعد لانعقاده‏.‏

والحقيقة أن الصحف وأجهزة الإعلام الأخري لم تكف عن متابعة ما يحدث للمثقفين علي أيدي جماعات الإسلام السياسي ومن يتعاطفون معها وينفذون تعليماتها سرا وجهرا في المؤسسات المختلفة‏,‏ ومن ذلك الدعاوي التي رفعها بعض المنتمين لهذه الجماعات علي كتاب اتهموهم بالإساءة اليهم في بعض ما كتبوه‏,‏ وحكم لهم بتعويضات لم يخل تقديرها أو تحصيلها من قسوة شديدة‏,‏ كما حدث معي لأني كتبت أندد بالتطرف الديني‏,‏ ومع الكتور جابر عصفور لأنه دافع عن حقي في التعبير عما أري‏,‏ فأصابه ما أصابني‏!.‏
وقد تحدثت الصحف عن هذه الدعاوي كما ذكرت‏,‏ لكنها قدمتها في أخبار وتعليقات متناثرة‏,‏ ولم تضعها في سياقها‏,‏ ولم تشر إلا نادرا لما يربط بينها وبين ما سبقها ولحقها من وقائع الحرب المعلنة علي المثقفين المصريين‏,‏ وعلي المباديء والقيم والمؤسسات والحقوق التي يدافعون عنها‏,‏ وفي مقدمتها حرية التفكير والتعبير التي نعتبرها الشرط الأول للنهضة‏,‏ لأن النهضة لا تتحقق إلا بالإنسان‏,‏ والإنسان لا يتحقق إلا بالعقل‏,‏ والعقل لا يعمل إلا في الحرية‏.‏

فإذا كانت حرية التفكير والتعبير حقا مقدسا لكل إنسان فأصحاب الرأي والمفكرون والأدباء والفنانون والعلماء هم أحوج الناس إليها وأولاهم بها‏,‏ انها بالنسبة لهم شرط حياة يتقدم علي كل شرط‏,‏ لأنهم لا يستطيعون بدونها أن يؤدوا واجبهم في إيقاظ العقول‏,‏ وتهذيب النفوس‏,‏ وترقية الأذواق‏,‏ وفهم الطبيعة والسيطرة علي قوانينها واستثمار خيراتها‏,‏ وحرية التفكير إذن ليست ترفا أو زينة‏,‏ ولكنها حاجة ماسة وشرط لا يكون بدونه فكر أو عمل‏.‏
وبعض الناس يتنازلون عن حريتهم ليضمنوا حياتهم ولقمتهم‏,‏ لكن الذي يتنازل عن حريته يتنازل عن حياته‏,‏ إذ يصبح كائنا رخيصا مبتذلا يتصرف فيه القادر تصرف المالك‏,‏ والحياة لا تكون مقدسة إلا حين تكون الحرية مقدسة‏.‏
وكما أن الحرية ليست ترفا فهي ليست امتيازا لفئة أو جماعة أو أمة‏,‏ وانما هي حق للبشر أجمعين‏,‏ للمثقفين وغير المثقفين‏,‏ للمتعلمين والأميين‏.‏
واذا كانت الحرية حقا للجميع فالعدوان عليها عدوان علي حق أساسي من حقوق الإنسان والمواطن‏,‏ ومن هذه الزاوية يجب أن ننظر لما يحدث للمثقفين المصريين منذ سبعينيات القرن الماضي علي أيدي جماعات الإسلام السياسي‏,‏ وهو استمرار لما حدث لهم منذ الخمسينيات علي أيدي ثوار يوليو الذين فرضوا الصمت علي الجميع‏,‏ واحتكروا القول والفعل‏,‏ وراقبوا الحركات والسكنات‏,‏ وحولوا المثقفين الي موظفين‏,‏ وزجوا بمن قاوموهم في السجون والمعتقلات‏.‏

ثم جاء ثوار مايو ليطلقوا علي المثقفين جماعات الإسلام السياسي‏,‏ تنصب لهم الكمائن‏,‏ وترفع عليهم دعاوي الحسبة‏,‏ وتكفرهم‏,‏ وتحاصرهم من جميع الجهات‏,‏ وتستخدم في ذلك كل الوسائل والسبل والمؤسسات بما فيها المؤسسات التي أنشأتها الثقافة وبنتها الديمقراطية‏.‏
الشيخ محمد الغزالي أعلن في ساحات العدالة أمام حراس القانون‏,‏ أن اغتيال من يعارضون تطبيق الشريعة ـ أي الذين يدافعون عن الدولة المدنية والنظام الديمقراطي ويرفضون استغلال الدين في السياسة ـ عمل شرعي‏.‏
أما المستشار طارق البشري فقد أفتي في مجلس الدولة بأن الأزهر وحده صاحب الرأي الملزم في تقدير ما يتفق مع الإسلام وما لا يتفق معه في الأعمال الأدبية والفنية‏,‏ وبالتالي في السماح أو عدم السماح بعرضها علي الجمهور‏,‏ وهكذا لم يعد من حق أحد أن يشارك الأزهر في إبداء الرأي أو يعارضه فيما يقول‏.‏
وليس هناك من يجادل في أن الأزهر هو مرجعنا الأول الذي نستفتيه فيما يحتاج من أمور الدين لتخصص أو اجتهاد‏,‏ لكننا نفعل ذلك مختارين لا مرغمين‏,‏ وذلك لثقتنا في جدارة الأزهر‏,‏ ولما نكنه له من احترام لا يمنعنا من أن نستفتي قلوبنا ونفكر لأنفسنا‏,‏ ونعمل في النهاية بما نقتنع به ونطمئن إليه ولو لم يكن هو رأي الأزهر‏,‏ فالأزهر مؤسسة علمية نأخذ منها ونترك‏,‏ وليس سلطة دينية نلتزم بما تقول كما جاء في فتوي المستشار التي حولت الأزهر الشريف الي جهاز للرقابة والمصادرة‏.‏

في هذا المناخ‏,‏ واستمرارا لهذه الحرب المعلنة علي الثقافة المصرية وعلي المثقفين المصريين اغتيل فرج فودة‏,‏ لأنه كان يدافع عن الدولة المدنية‏,‏ وكاد نجيب محفوظ يلقي هذا المصير لأنه كتب روايات لم يقرأها الذين سددوا له الطعنات‏,‏ وحكم بالردة علي نصر حامد أبوزيد لأنه دعا الي الاجتهاد في فهم النص الديني‏,‏ وصودرت العشرات من المؤلفات الفكرية والأدبية‏,‏ وأوقفت العشرات من العروض المسرحية والسينمائية‏,‏ وحرم النحت والتصوير‏,‏ ورفعت دعاوي الحسبة علي الكتاب والشعراء والفنانين والصحفيين والناشرين‏.‏
القضية إذن ليست نزاعا بين بعض الكتاب وبعض السلفيين‏,‏ وانما هي حرب فعلية معلنة علي مصر كلها‏,‏ علي النهضة المصرية الحديثة‏,‏ علي الديمقراطية‏,‏ والدستور‏,‏ والدولة المدنية‏,‏ والوحدة الوطنية‏,‏ والصحافة الحرة‏,‏ والتفكير العقلاني‏,‏ والبحث العلمي‏,‏ وتحرير المرأة‏,‏ وحقوق الإنسان‏.‏
وفي الوقت الذي تنهال فيه الطعنات والضربات علي ثقافة النهضة ترصد الأموال‏,‏ وترسم الخطط‏,‏ وتشتري الضمائر‏,‏ وتتم الصفقات لإحياء ثقافة التخلف والتطرف والظلام التي ستكون موضوع حديثنا المقبل‏.‏

نقلا عن الاهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع