بقلم: هاني دانيال
ما زال القلب يدمي، والعين تدمع على رحيل المهندس عدلي..
فراقه فوق الاحتمال، أعلم أن الموت سيطول كل فرد منّا، ولكن من الذي يستطيع أن يتحكم في مشاعره بفقدان عزيز لديه؟، السيد المسيح بكى عند موت لعازر، وبكى على وحيد الأرملة في مدينة نايين رغم أنه يستطيع أن يقيم الموتى.. فإذا كان السيد المسيح له كل المجد لم يستطع التحكم، فهل من إنسان بسيط مثلى يستطيع السيطرة على مشاعره؟، إننا كبشر لا نستطيع التحكم في هذه اللحظة بالذات، إنها الحالة الإنسانية الاستثنائية التي تمتزج فيها لحظة الفراق لتتفاعل مع العاطفة، ويظهر العقل هنا عاجزًا عن تصديق الفاجعة، لتتحول حالة الذهول التي يُصاب بها الإنسان إلى دموع وحسرة على ما حدث.
ما زلت أتذكر اللحظة التي سمعت فيها برحيل المهندس عدلي، حيث اتصل بي صديق عزيز قبل ساعات من رحيل عام 2009، تصورت للوهلة الأولى بأنه سيهنئني بالعام الجديد، إلا إنني انتظرت منه شيئًا آخر رغم أنه يحمل أخبارًا مُفرحة دائمًا، ورغم تهنئته لي بقدوم العام الجديد انتظرت ثواني، وحدث ما توقعت، وجدته يقول لي "لديّ خبر محزن لك"، فقلت له ماذا تحمل؟، فقال لي سأقول ولكن تماسك.. شعرت برحيل شخصية عزيزة على قلبي، وانتظرت سماع الفاجعة وذهب عقلي بعيدًا ليفكر في أي شخص فقدته، مع شعوري بزيادة في ضربات قلبي، أعصابي تهرب مني ولم أعد أسيطر عليها، تجمدت في مكاني لم أعد قادرًا على التفكير أو الحركة، ولم أشعر بأي حاسة لي سوى لساني يتحدث ويطلب منه سرعة القول، والآذن تعمل بكل طاقتها، ماذا تحمل يا صديقي، قل لي بسرعة، حتى وجدته يلاحقني بقوله "المهندس عدلي.. تعيش انت"... صدمت للحظات ولم أرد، حتى قلت له البقية في حياتك ونعزي أنفسنا جميعًا!
شعرت بالندم والحسرة على فراقه، للدرجة التي جعلت زوجتي تسألني.. ماذا حدث؟، فأبلغتها برحيل المهندس عدلي فتأثّرت كثيرًا، ووجدت نفسي شارد الذهن، لا أعرف كيف أفكر، وماذا أقول، لم ألتق به إلا في مؤتمر زيورخ في مارس 2007، وتحدثت معه تليفونيًا أكثر من مرة لإجراء حوارات معه لموقع "الأقباط متحدون" ولكنى شعرت بأننى أتحدث إليه كثيرًا، لما شاءت الظروف أن ألتقي شخصيات تتحدث عنه بالخير، ودائمًا ما يتم ذكر اسم المهندس عدلي مقترنًا بالاحترام والتقدير "عدلى بك"، وأيضًا يُذكر اسمه دائمًا مقترنا بالقوة والعطف، الأبوة والحكمة، العطاء بدون حدود، والحب المطلق.
قضيت الساعات الأولى من عام 2010 أفكر في رحيل المهندس عدلي، سهرت الليل أفكر فيه، وهل أي كلمات تعطي هذا الرجل حقه؟ وتذكرت ما قاله قداسة البابا شنودة في رثاء معلمه حبيب جرجس حين قال:
هذه تقواك إيمان فحب.. هذه دنياك أشواك وصلب، أنت قلب واسع في حضنه.. عاش جيل كامل أو عاش شعب، أنت نبع من حنان دافق.. أنت عطف أنت رفق أنت حب.
بالفعل كان أبًا لنا جميعًا، غمر الكثير بحبه، سعى لكي يكون إنجيلاً مُعاشًا، لم تكن حياته مفروشة بالورود، لم يكن دفاعه عن الأقباط إلا من موضع المسئولية والالتزام والإيمان الكامل بأهمية العمل والعطاء والحب، والاقتناع الكامل بدور المسيحي على الأرض، تنفيذه لوصايا الإنجيل، لم يكن يبحث عن مجد شخصي أو بطولة وهمية، لمست فيه حبه للآخرين، تواضعه وعدم الحديث عن نفسه كثيرًا، حرص على أن يفعل الكثير دون ذكر اسمه، لينفذ ما جاء بالكتاب "احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكى ينظروكم، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذى في السموات"... "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ... بل اكنزوا في السماء لأنه يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا".
إبتسامته كانت تنبع من قلبه، صدقه في الدفاع عن قضيته لم يكن يختلف معه أحد، وحتى في اختلافه مع الآخرين، كان ينسي ويتسامح بكل وداعة ومحبة، ووجدت هذا بنفسي أكثر من مرة، أذكر في مؤتمر زيورخ 2007 وحينما اختلف مع الدكتور جهاد عودة أثناء فعاليات المؤتمر ورغم النقد الشديد الذي وجهه المهندس عدلي لجهاد عودة، إلا إنه في الحفل الختامي للمؤتمر وجدته بكل تسامح وبساطة يتصالح مع عودة، ويقوم بمصافحته وتقبيله أمام معظم المشاركين في المؤتمر، وقمت بتصوير هذا المشهد، ولكنى للأسف لم أعثر على الصورة بعد، وهي واقعة تعبر كثيرًا عنه وعن شخصيته، واعترف أكثر من شخص بأنهم اختلفوا معهم كثيرًا ولكنهم يقدرونه ويتذكرون له تسامحه ومحبته، والعطاء غير المحدود المشهور عنه.
ما زال القلب يدمي، والدموع لم تجف بعد، لأنني حاليًا في حوار داخلي مع روح المهندس عدلي، أتحدث له ويتحدث إليّ، أفصح له عما بداخلي ويبادلني بما بداخله، أشعر وكأن هناك أسرارًا كثيرة لم يتم الكشف عنها بعد أسعى لكي أنتزعها منه، وإلى أن انتهى من هذا الحوار..
ادعو لي بالصبر على ما أنا فيه، حتى أتجاوز هذه المحنة، وأكشف لكم لماذا كل هذا الأسى في القريب العاجل. |