تأليف: انطوني ولسن
لم يذق عارف الطعام ولم يعرف النوم لعيونه طريقًا، ولا الراحة لنفسه منذ خرجت نعيمة في تلك الحالة الجنونية بعدما أخبرها بنبأ القبض على السارق ليلة «زفة العروس».
أما شلبية فقد كانت تجلس وتُحدِّث نفسها كثيرا متسائلة عن الذي حدث لنعيمة.. انها تغيرت كثيرًا، صارت قلقة غير راضية عن عملها، تحلم بالزوج والاولاد، تتكلم عن اشياء لا تفهمها شلبية. إن شلبية تحب حياة البساطة، كل همها اليومي، تنظيف المنزل واعداد الطعام. ما هو المنزل التي تنظفه فهذا ليس في فكرها ولا تحاول ان تعرف ماذا يكون عليه المنزل ومفروشاته واثاثاته. والطعام عندها هو ما يملأ «البطن»، وما تستطيع ان تشتريه بالقروش القليلة التي يكتسبها ثلاثتهم من مهنتهم هذه.
لذا كانت تجد في تمرّد نعيمة على هذه «العيشة» تبطراً لا يرضاه الله. وكثيرا ما كانت تبتعد عن نعيمة وتختلق الاعذار. عندما تبدأ الاخيرة في «التخريف» كما كان يحلو لها ان تقول عنها.
أما بعد ان خرجت نعيمة ولم تعد.. فهذا امر محيّر.. لا تعرف إن كانت نعيمة حقاً تعرف السارق النصراني هذا.. وكيف لها ان تعرفه وهما دائماً معاً لا تفارق احداهما الأخرى الا لبضع ثوان او دقائق ولا تظنُّ انها كفيلة بتكوين علاقة مع اي انسان آخر؟
وعندما يصل تفكيرها عند هذا الحدّ، كانت تهزُّ رأسها دون ان تعي وتُحدث نفسها.. لا.. لا يمكن.. انا اعرفها جيدا. انها تحبُّ عارف.. نعم على الرغم انها لم تبح لها بذلك الا انها كانت تلحظ ذلك في نظراتها الحالمة عندما كانت تنظر اليها. وعارف شقيقها ضائع.. مهنته ليست المهنة التي تسمح بتحمُّل مسؤولية زواج واولاد.. ولا يمكنه ان يعمل عملا آخر غيره.. لأنه لم يحاول ابدا ولا تظنُّ انه يصلح لمهنة غير مهنته هذه. لم تحاول شلبية ابدا الاقتراب من شقيقها عارف لتتحدَّث معه في امر نعيمة.. انه حزين.. حيران قليل الحيلة.. لا يعرف ماذا يفعل.. بل خروج نعيمة، شل حركته وتفكيره وتركه على هذه الحالة اليائسة البائسة.
وسط هذا الصمت الذي لفَّهما، وبعد غروب شمس اليوم الثاني على خروج نعيمة وبداية اسدال ستار الظلام في المساء، سمع عارف طرقا خافتا على الباب.. نظر في اتجاه الباب للحظة، ثم عاد الى حيث ما كان عليه غارقا في افكاره.. سمعت شلبية ما سمعه عارف. لم تنظر الى الباب بل نظرت الى عارف الذي بادلها النظرة في نفس اللحظة.. تلاقت عيناهما.. اخفض كل منهما رأسه.. قفزا معاً من مكانهما.. جريا صوب الباب وتجمدت اقدامهما وايديهما. لم يستطيعا الحركة.. سمعا صوتا ضعيفا خافتا وكأنه صوت آت من اغوار قبر، يطلب من عارف ان يفتح الباب..
وفي لمح البصر، فتح عارف الباب فوجد امامه نعيمة على الارض رافعة يدها ووجهها المضرَّج بالدماء تنظر اليه. انحنى عليها وحملها ودخل بها الى حيث توجد «المكتبة» فمدَّدها عليها.
تسمرّت شلبية امام الباب، وفي داخلها صرخة محمومة مكتومة ارادت ان «تلطم» و»تولول» لم تستطع.. ارادت ان تفتح فمها وتسأل نعيمة عن الذي حدث لها.. ولكنها لم تستطع. اتجهت بنظرها الى حيث ترقد نعيمة فوق «الكنبة». فطلبت نعيمة من عارف ان يقترب برأسه الى فمها لتخبره شيئا. بعدها ادار عارف رأسه وصرخ في شلبية.
عارف : اقفلي الباب بالمفتاح وضعي «الترباس» يا بت يا شلبية وتعالي هنا بسرعة.
بعد ان فعلت شلبية ما امرها به عارف، اتجَّهت ناحية نعيمة وهي تضرب على صدرها بيدها وتقول..
شلبيــة : ما الذي جرى لك يا نعيمة.. من ابن الحرام الذي اعتدى عليك هذا الاعتداء.. احكي لي يا حبيبتي.. انا «برضه» اختك.
اشارت نعيمة اليها بيدها ان تسكت وأَلاَّ تتكلم.. طلب عارف من شلبية ان تجري وتحضر «بصلة» حتى تساعد نعيمة على الكلام.. حدثت ربكة بين الاثنين.. ماذا يفعل عارف ايذهب لاحضار «حلاق القرية» ليرى حالة نعيمة ويعالجها.. ام يحاول ان يوقف نزيف الدم بوضع «البن» على الجرح حتى يوقف الدم؟ واين الجرح اهو في رأسها ام في صدرها ام في ذراعيها؟.. انه يرى دما نازفا من كل مكان، وكأن المسكينة ذبيحة مقطعة.. اقترب منها عارف وسألها:
عارف : ايه اللي عمل فيك «كده»؟
في صوت خافت هامس اجابت:
نعيمة : فتح الله ابن العمدة.
سمع عارف الاسم ارتبك وبدت على وجهه الحيرة والخوف معا.
عارف : «وليه.. وعشان ايه»؟
نعيمة : لانه هو الحرامي.. «في اعياء شديد» انا شفته وهو بيسرق «الجدع» الفلاح ليلة الزفة.
عارف : مالنا نحن وفتح الله والسارق والمسروق..
تأتي شلبية من الداخل وفي يدها «بصلة» وتقول لـ عارف:
شلبية : خد يا عارف «شممِّها البصلة».. علشان تفوق وتمسك صحتها.
عارف : هاتي يا شلبية..
بدأ عارف وشلبية، محاولة علاج نعيمة.. لم تحتمل المسكينة رائحة «البصل» وآلمها طريقة «كيس البن» فوق جراحها.. فغابت عن الوعي.
منذ ان ترك فتح الله ورجاله كفر البلاص وهو يبحث عن نعيمة وشهدي.. جاب الكفر بنفسه اكثر من مرة.. فلم يعثر على اثر لهما.. ذهب الى النجوع والقرى المجاورة وفشل ايضا.. ارسل برجاله في كل مكان.. وعاد كل منهما خالي الوفاض.. وكأنَّ الارض قد انشقت وبلعتهما.. هكذا كان دائما يضرب كفا بكفِّ وهو يقول هذا.
غربت الشمس ولم يأكل ولم يشرب والحقد الاسود يملأ صدره والرغبة في الانتقام من نيعمة والقضاء عليها، تزداد كل دقيقة ولحظة بفشل في العثور عليها عن سابقتها. لا يفكّر انه ضربها «وفش غليله»، ولكن هذا ليس بكاف.. الملعونة رأته وهو يسرق حافظة الفلاح. غمز لها بعينه بادلته النظرة وابتسمت ابتسامة خفيفة.. فلماذا تساعد هذا الفلاح من كفر البلاص على الهرب؟
حقيقة، امرها غريب، حاول كثيرا ان يتقرَّب اليها ويداعبها واحيانا يغازلها في كثير من المناسبات.. إلاَّ انها لم تكن تعطيه اكثر من ابتسامة لاحظ فيها احيانا كثيرة نوعا من اللامبالاة.. لم تبادله لا النظرة ولا الكلمة.. الراقصة بنت الراقصة كانت ترفض وكأنها هانم.. وهو ابن العمدة ليس الا نفر من انفارها العاملين في ضيعتها.. كانت صورتها دائما امام عينيه وهو يبحث عنها.. وعندما يقف ليستريح قليلا، كانت تتجسّم واقفة متحدية شامخة امامه.. كان يصرخ في غيظ وهو يقول:
فتح الله : «آه يا بت الكلب.. انت فاكره نفسك ايه.. وأنت حتة رقاصة.. غازية لا رحتي ولا جيتي.. راح اشرب من دمك لما اشوفك».
تعب الخفر من كثرة المشي وهم يبحثون عن نعيمة وشهدى. وكانو دائما يتعجبون من اصرار العمدة فتح الله على احضارهما اليه مهما كلفهم الأمر. وكانت تساؤلاتهم تدور حول هذا الاصرار، وبخاصة نعيمة.. يعرفون عنه انه «صاحب مزاج». فاسق.. سارق.. يتاجر بكل ما هو ممنوع.. ليس فيه صفة واحدة من صفات ابيه العمدة.. بل على العكس تماما.. يتحلَّي العمدة بالصفات الحميدة الطيبة.. ويخاف الله ولم يظلم احداً ولم يأخذ مالا حراما او رشوة.. والادهى من كل هذا انه يكره الاجرام والمجرمين.. فماذا يا ترى سيفعل عند عودته من المركز؟.. خوفهم لم يكن على هروب السارق.. لاَّنهم متأكدون من براءته.. لانهم كثيرا ما رأوا باعينهم العمدة فتح الله وهو «يندس» في مثل هذه المناسبات ويسرق محفظة احد الفلاحين.. ولا يستطيع احد منهم ان يفتح فمه.. ويعرفون ايضا ان الخفير حمدان الذي قبض على السارق، واحد من رجاله واتباع. يأتمرون بأمره ويطيعونه طاعة عمياء ويخشون بأسه وسطوته وغلاظة يده وسلاطة لسانه، بل إنَّ حمدان هذا، هو ذراعه الأيمن في ترويج المخدَّرات بين ابناء الفلاحين في الكفور والنجوع وقرى المركز..
ولكن ماذا يفعلون؟.. كل منهم وراءه «كوم لحم» من زوجة وأم او أب عاجز عن العمل.. وقد وجدوا في هذه الوظيفة «الميرى» مرتباً ثابتا يتقاضونه كل اول شهر مع «حسنة من هنا أو من هنا».
الى جانب السلطة والهيبة بين الفلاحين..
لم يحتمل عارف ان يرى نعيمة مطروحة امامه لا تستطيع الحركة «مقطوعة النفس» حاول ان يفعل شيئا لإعادتها من غيبوبتها فلم يستطع. خرج مسرعا واحضر «حلاق القرية» والذي يطلقون عليه «الدكتور حلاق الصحة».. هو رجل خبير بالاسعافات الاولية يعالج الفلاحين اما عن طريق الحقن او العقاقير التي يعطيها لهم دون الرجوع الى اي طبيب.. وعلى رأي المثل «خد من عبدالله واتكل على الله»..
وما أن رأى نعيمة حتى شهق وقال:
الحلاق: ماذا جرى للمسكينة.. يبدو انها نزفت دما كثيرا.. لا بد من نقلها الى الوحدة الصحية، وفي اقرب وقت..
عارف: الا يمكنك عمل شيء؟..
الحلاق: سأحاول حقنها حتى تفيق من غيبوبتها واضمدِّ جراحها ثم نعمل على نقلها..
(يتبع)
الحزء الأول
الجزء الثاني |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|