يتحمل أقباط مصر الألم لوشم الصليب، ولكن بعضهم لا يستطيع الحصول على بطاقة هوية بذلك
في ساحة إحدى أقدم الكنائس المسيحية في المدينة، يقوم جرجس غبريال جرجس بوشم علامة الصليب على يد طفلة صغيرة.
والطفلة في سن غض للغاية، إذ يناهز عمرها الثالثة، ومع وشم علامة الصليب الزرقاء على معصمها من الداخل تطلق الصغيرة صرخة عالية الصوت.
ولكن بالنسبة للآباء والأمهات هنا، فهذه لحظة يفخرون بها، فوشم الصليب دلالة على الارتباط بالمجتمع القبطي وهويته.
وآخرون يصطفون في صبر بينما يمسح جرجس ما تبقى من الصبغة ليظهر الصليب القبطي الصغير على المعصم. والجميع يهتفون "الله!".
وكثر هم من يريدون أن توشم على أجسادهم علامة الإيمان المسيحي القبطي بحيث لا يمحوها الزمن.
ويقول جرجس "يوما كان وشم الصليب هو العلامة لتمييز أيتام المسيحيين ممن قتل آباؤهم في الحرب، حتى لا يكبروا مسلمين".
كما يحمل أيمن رفعت زكي، 22 عاما، على معصمه علامة الصليب أيضا.
وأيمن من أعضاء كنيسة الملاك ميخائيل في القاهرة منذ تسع سنوات، وهو الآن من شمامسة الكنيسة.
كل أحد يرتدي أيمن "التونيا" وهو الجلباب الديني الأبيض للشمامسة أثناء خدمة المذبح، ويشترك أيمن في العبادة التي يحتشد لها جمع كبير من المسيحيين.
ينشد الشماس قراءات الإنجيل وهو يدور حول مقاعد الكنيسة مع تصاعد البخور الكثيف أثناء القداس.
غير أن هوية أيمن الروحية الواضحة - ناهيك عن وشم الصليب - ليست كافية لإقناع الدولة بأنه مسيحي.
فقد أسلم والده حتى يتمكن من تطليق زوجته بينما كان أيمن في شهره الخامس.
وهربت أم أيمن بولدها الوحيد من قريتهم إلى القاهرة.
ففي الإسلام يحدد الأب دين الأولاد، واليوم وحتى بعد أن كبر أيمن مازالت الدولة تأبى منحه البطاقة الشخصية كمسيحي والتي تعوزه بشدة.
ويقول "منذ السادسة عشرة وأنا أحيا حياة مستترة، فبالنسبة للدولة لا وجود لي، فهم يريدون أن يجبروني على الإسلام بقبولي بطاقتي الشخصية كمسلم، ولكن قرار الإسلام كان قرار أبي وهو ليس قراري".
ويضيف "أموت ولا أقبل بطاقة شخصية كمسلم، والأمر واضح وضوح الشمس هنا للجميع أنني مسيحي أمارس عقيدتي".
ويشكل المسيحيون في مصر زهاء 10% من سكانها، ولكن في مجتمع إسلامي يجد الأقباط أنفسهم عرضة للتهميش بشكل متزايد.
دعاوى الأسلمة الجبرية
ويلزم القانون في مصر الشخص البالغ على حمل البطاقة الشخصية (بطاقة الهوية) التي تنص على الدين كمسلم أو مسيحي حتى يتنسنى له الحصول على التعليم، والدراسة، فضلا عن المعاملات والخدمات العامة والزواج وغيرها.
يقول الأقباط إنهم يواجهون التمييز
وتقول المجموعات الحقوقية الدولية إن البطاقة الشخصية تستغل أيضا للتمييز في التوظيف على أساس الدين.
وفضلا عن ذلك ثمة حالات تتعلق بدعاوى بعمليات أسلحة قسرية وعنيفة.
فنهلة، وهذا ليس اسمها الحقيقي بقصد حمايتها، تقول إنها فرت من منزلها بعيدا على أيدي أسرتها التي كانت تسيء إليها، حيث انتقلت للعيش مع اختها، التي أسلمت لتتزوج مسلما.
وفي غضون شهر من انتقالها للعيش مع اختها، أعلن زوج شقيقتها أنه وجد لها عريسا مسلما ومارس الضغط عليها لتشهر إسلامها.
وبعد أن رفضت الإذعان، أبلغ زوج الأخت الشرطة عنها، حيث اقتيدت إلى قسم الشرطة لتتعرض للضرب.
وتمضى نهلة في سرد قصتها لتروي كيف أنها هربت من "زوجها" المسلم وقد تزوجت الآن من مسيحي.
أبناء نهلة مسيحيون، وهي تواظب على حضور الكنيسة، ولكن السلطات ترفض منحها بطاقة شخصية كمسيحية.
وتقول "بدون البطاقة في مصر لا يمكنك فعل أي شيء، ولا حتى استخراج تصريح لتدفن".
وتضيف "ماذا سيفعلون بي حينما أموت؟ لا أريد أن أوارى الثرى في مقابر المسلمين!".
وفي مصر مزاعم التحول القسري تلك تعد مسألة متفجرة وخطيرة.
وفي القرى حيث يتعايش مسيحيون ومسلمون معا، أدت تلك المزاعم إلى أعمال شغب.
ففي الشهر الماضي وثق تقرير جديد للمنظمة الدولية للتضامن المسيحي والمؤسسة القبطية لحقوق الإنسان 25 حالة لدعاوى أسلمة قسرية - ووجه التقرير النقد للحكومة لتجاهل تلك الحالات.
ولا يخلو الأمر من الكثير من المهاجمين لهذه التقارير حيث يقولون إنها لا تعكس الواقع على الأرض.
ويقول يوسف سيدهم، رئيس تحرير صحيفة "وطني" المسيحية إن تلك المزاعم دائما ما يصعب إثباتها.
ويقول إن ما يزعم أنه عمليات أسلمة قسرية هو في الغالب قصص لهروب مع عشاق عادة ما تكون نهايتها غير سعيدة، وكثيرا ما لا يكون في الأمر خطف أو غيره بل علاقات بين بنات مسيحيات وشباب مسلم.
وأحيانا ما يقول الآباء إن بناتهن قد خطفن لإخفاء الفضيحة، بينما تكون الفتاة قد تزوجت الشاب المسلم برغبتها.
ويضيف "إنهم يضخمون الأمور عادة".
ويقول "تحققنا من الكثير من الحالات، المرة بعد الأخرى، فهذه مسألة تهمنا للغاية ونحن لا نترك تلك الحالات دون أن نبحث وراءها".
"غير أنني لا أذكر منذ عام 1997 سوى ثلاث حالات مؤكدة تثبتنا من وجود عملية خطف وأسلمة جبرية فيها".
ولكن رغم تعقيدات مزاعم الأسلمة الجبرية، فإن سيدهم ومسيحيين آخرين يتفقون على ضرورة حل مسألة بطاقات الهوية بحيث يمكن تغييرها من مسلم إلى مسيحي بحرية.
"خياران"
وهناك حالات تلعب فيها الحكومة المصرية دورا مباشرا لإجبار الناس على البقاء مسلمين بالهوية رغما عن إرادتهم.
فالمحامي بيتر رمسيس النجار يقول إنه يمثل الآن 3200 مسيحي مجبرين على العيش بهوية مسلمة.
ويضيف "ينص القانون على أن من حق الشخص التقدم بأوراق من الكنيسة تدلل على أنه مسيحي أو أنها مسيحية، وذلك مع بلوغ السادسة عشرة من العمر حيث يلزم استخراج البطاقة الشخصية".
"ولكن حدث أن اصطحب أشخاص تلك الأوراق إلى وزارة الداخلية فقيل لهم ببساطة إن أمامهم اختيارا من اثنين، إما أن يقبلوا ببطاقة شخصية كمسلمين أو لا بطاقة شخصية على الإطلاق - وهي مشكلة كبيرة جدا!".
وهناك حالات تمكن فيها أشخاص في نفس وضع أيمن ونهلة من الطعن لدى المحكمة في قرار السلطات، ولكن ورغم الحكم تتجاهل وزارة الداخلية التنفيذ في الغالب.
ومؤخرا تميل المحاكم إلى الحكم لصالح الحكومة التي تدفع بمدعيها أن العودة إلى المسيحية "ارتداد".
وبمقتضى تفسير للشريعة الإسلامية فالردة - بمعنى التحول عن الإسلام لاعتناق أي ديانة أخرى - حدها القتل.
أما هيومان رايتس ووتش فتشير إلى أن القانون المصري لا يمنع التحول عن الإسلام، غير أن المحاكم تحكم على أساس أن السماح بعمليات التحول عن الإسلام "تمس بالنظام العام".
وقد طلبت بي بي سي من وزارة الداخلية أن ترد على تحقيقنا، ولكن بعد ثلاثة أسابيع من الانتظار لم يصلنا أي جواب.
ولم يعلق أي ممثل للدولة على ذلك. |