بقلم: ماجد سمير
يعاني معظم الكتاب الساخرين في مجتمعنا نظرة لا تضعهم في المكان المناسب، بالرغم من أننا شعب يعشق الضحك ويجيد تأليف وإطلاق النكتة بشكل منقطع النظير، ولكن وضع الكتابة الساخرة يكاد يكون منحط وتصنف على أساس أنها كتابة ركيكة بلا رؤية وسطحية، وربما تجود سمة علاقة بين مفهوم الصحافة والسطح، فالأثنين بهما نشر مرة للكتابة ومرة للغسيل، ورغم وجود أجيال متتابعة من عظماء الكتاب في مصر لهم باع طويل في الكتابة الساخرة مثل محمد عفيفي وعبد العزيز البشري رحمهما الله وعمنا أحمد رجب عليه السلام، وكذلك أستاذنا محمد السعدني شفاه الله وأعاد قلمه المبدع إلى قراءه، إلا أن إبداعات الأساتذة لم تشفع وظل الإنطباع السائد لدى عدد غير قليل من القائمين على النشر سواء في الصحف أو المطبوعات المختلفة هو موضوع السطح إياه.
وكما أشار الزميل سامح سامي في أحد مقالاته أن من يحترف الكتابة يعرف صعوبة الكتابة الساخرة التي تمتزج فيها روح الكوميديا مع تمرد كامل وجاد على الأوضاع التي يلاحظها الكاتب الساخر. وقال الكاتب الأردني يوسف جيشان عن هذه الكتابة: "هي سلاح الشعب الضعيف في مواجهة الغاشم، وهي سلاح الطبيعة الفعال ضد القتامة والفساد والخواء، وهي سيف يعيد الأشياء إلى حجومها الطبيعية ويفقع بالونات الدعاية الفجة ويطهر الأمكنة من فسادها". كما أن علم النفس في أحد فروعه تحدث عن الكتابة الساخرة واصفها بأنها سلاح ذاتي يستخدمه الفرد للدفاع عن جبهته الداخلية ضد الخواء والجنون المطبق، إذ أن السخرية رغم هذا الامتلاء الظاهر بالمرح والضحك والبشاشة، إلا أنها تخفي خلفها أنهارًا من الدموع.. إنها مانعة صواعق ضد الانهيار النفسي.
عانى جيلي -وأخشى أن يعتقد بعض النقاد العظام أني أقصد بكلمة "جيلي" تلك الأكلة المثلجة الشهيرة لونها يكون أحيانا أصفر أو أحمر أو برتقالي وترتعد وترتعش فور فتح الثلاجة فيتصور كل من يراها تهتز بشدة أمام نظرته أنه شخص مخيف ومرعب-، ومعاناة زملائي من الساخرين ومن قبلنا أساتذة كبار مثلوا أجيال متتالية لم تكن جديدة على التاريخ الذي أشار إلى أن أرسطو خلال العصور القديمة كان يفضل التراجيديا في الكتابات والمسرحيات القديمة، لأن التراجيديا تبدأ في معظم الأحيان من قوة وتنتهي بضعف وهو الأمرالذي يخلق مزيد من الإستكانة لدى المتلقى.
وقال البعض عن أرسطو أنه كان مثقف السلطة في مقدونيا وتولى رئاسة الأكاديمية الملكية ودافع بإستماتة عن أثينا ومقدونيا ضد أعدائهما، لذا كان وضعه للكتابات الكوميدية في مرتبة أدنى من التراجيديا ما يخدم السلطة وهو الأمر الذي يعتنقه الكثيرون حتى الآن، فالكوميديا أولاً تنقد السلطة فضلاً عن أنها تبدأ من الضعف وتنتهي بالقوة وقد تؤدي إلى ثورة وتمرد، ويذكر التاريخ التراجيديا ويخلدها مثل مسرحية كلاب الصيد لـ"سوفوكليس" الأب الشرعي للمسرح الإغريقي، ومسرحياته أوديب ملكًا، وانتيجونا، واليكترا وكذلك مسرحية الضفادع لاريستوفانيس ومسرحية الضارعات لايسخلوس ويتوارى في جانب غير مرئي الشاعر "ارستوفانيس" أعظم ما أنجبته أثينا في فن الكوميديا وأعماله أخارنيس، ومسرحية أخرى بعنوان الفرسان.
وسيظل الوضع كما هو يتوارى دور الكتابة الساخرة رغم أنها أصعب أنواع الكتابة على الأطلاق في جانب مظلم ويخلد التاريخ الأنواع الأخرى الأسهل، ربما لأننا أكثر نكدًا وعشقًا للحزن رغم أن السخرية من الواقع تؤدي إلى إبتسام أو ضحك لكنه دائمًا ضحكًا مرًا. |